الحمد لله.
أولا :
عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رواه أبو داود (3635) والترمذي (1940) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ".
ومعنى هذا الحديث صحيح ، تشهد له أدلة الشرع، فهو من باب الجزاء من جنس العمل، وقد تضافرت أدلة الشرع على تأكيد هذه القاعدة.
وهذا المعنى مركوز في فطر البشر، مؤمنهم وكافرهم ، ويلمسونه في خضمّ حياتهم، لذا لا يكاد شعب من الشعوب إلا وله من الحكم والأمثال ما يقرر هذا المعنى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" قالوا: وقد دل الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع : على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى ( جَزَاءً وِفَاقًا ) أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعا وقدرا " انتهى. "عون المعبود مع حاشية ابن القيم" (12 / 176) .
وقال رحمه الله تعالى:
" وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره، وحكم الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله الله شرعا وقدرا يأبى ذلك.
ولذلك كان الجزاء مماثلا للعمل، من جنسه ، في الخير والشر، ( فمن ستر مسلما ستره الله، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )، ( ومن أقال نادما أقاله الله عثرته يوم القيامة )، و( من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته )، و ( من ضار مسلما ضار الله به ) ، ( ومن شاق شاق الله عليه ) ...
فهذا شرع الله وقدره، ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائم بهذا الأصل، وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل " انتهى، من "إعلام الموقعين" (2 / 330 - 333).
ثانيا:
ما استشكله السائل من أنا قد نرى شخصا يضر الناس ويؤذيهم ويشق عليهم؛ لكن ظاهر حياته أنها مترفة منعّمة، لا تنغيص فيها ولا تكدير، فمثل هذه الصور لا ينتقض بها معنى هذا الحديث ، وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أنّ هذا التصور مبني على ظاهر هذا المؤذي الظالم، وكثيرا ما يلحق مثل هذا الظالم من الضرر والمشقة النفسية ما يجعله في نكد من العيش ، وضنك وكرب ، حتى إنه ليضيق بحياته وبمتع الدنيا المحيطة به؛ فربما تجد الواحد منهم لا ينام إلا بالمهدئات، وترى حوله من الزوجات والأولاد ما تقر به الأعين ظاهرا، لكنه معهم في ضيق ونكد لا سكن بينهم ولا رحمة، وقد يعاني من الأمراض المزمنة التي تمنعه من التمتع بلذيذ المأكولات والمشروبات مما يملكه؛ فهو يملك متع الدنيا؛ لكنه محبوس عنها، مبتسم الشفاه؛ لكنه متألم القلب.
الثاني : أن العقوبة ليست دائما معجّلة، فربما تتأخر عن الظالم ابتلاء وامتحانا من الله تعالى للناس بعضهم ببعض؛ قال الله تعالى:
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا الفرقان /20.
وقال الله تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ محمد /4.
والعذاب إذا أُخِّر عن الظالم ، فهذا ليس علامة خير بل ربما كان التأخير شرا أريد بهذا الظالم، فتتأخر عقوبته ليزداد غيا وتحيط به خطاياه، فإذا جاءه العذاب جاءه بغتة فيكون أشد ألما، ولا يترك له مجال التوبة فيموت يوم يموت وهو محمّل بمظالم الناس.عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ .
ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ سورة الأنعام: 44
رواه الإمام أحمد في "المسند" (28 / 547)، وحسّنه محققو المسند.
وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ، إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ سورة هود: 102 رواه مسلم (2583).
الثالث : أن الحديث لم ينص على أن عذاب هذا الظالم يجب أن يلحق به في الدنيا، بل هو مطلق ؛ فقد تأتيه المضرة والمشقة في الحياة الدنيا، وربما يعيش الظالم مرفّها حتى يموت؛ فيموت وهو محمل بذنوبه وهناك عذاب الآخرة أشقّ وأضرّ وفضيحته أشد.
عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ رواه الترمذي (2396) وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ". وحسّنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي".
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: " أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ امْرَأَةً كَانَتْ بَغِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَعَلَ يُلَاعِبُهَا حَتَّى بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: مَهْ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ ذَهَبَ بِالشِّرْكِ - وَقَالَ عَفَّانُ مَرَّةً: ذَهَبَ بِالْجَاهِلِيَّةِ - وَجَاءَنَا بِالْإِسْلَامِ. فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَأَصَابَ وَجْهُهُ الْحَائِطَ، فَشَجَّهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدٌ أَرَادَ اللهُ بِكَ خَيْرًا. إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ لَهُ عُقُوبَةَ ذَنْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا أَمْسَكَ عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ عَيْرٌ رواه الإمام أحمد في "المسند" (27 / 360)، وصححه محققو المسند.
والله أعلم.