الحمد لله.
فقد تضمن السؤال نقطتين :
النقطة الأولى : حول درجة حديث : اتركوا الحبشة ما تركوكم .
وجواب ذلك:
أن الحديث حسن بمجموع طرقه ، وبيان ذلك كما يلي :
الحديث رُوي عن أربعة من الصحابة ، وهم ( عبد الله بن عمرو ، أبي هريرة ، عمرو بن عوف المزني ، رجل من الصحابة لم يسم ) .
الطريق الأول : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
أخرجه أبو داود في "سننه" (4309) ، وأحمد في "مسنده" (23155) ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2912) ، والبزار في "مسنده" (2355) ، والحاكم في "المستدرك" (8396) ، جميعا من طريق زهير بن محمد ، عن موسى بنِ جُبير، عن أبي أمامة بن سهل بن حُنيفٍ ،
عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال: اتركوا الحبشةَ ما تركوكم ، فإنه لا يستخرِجُ كَنزَ الكعبةِ إلاَّ ذو السُّوَيْقَتَينِ من الحبشة .
وفي بعض الطرق ، قال :" عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : سمعت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " . فلم يسم الصحابي .
والحديث إسناده ضعيف ، لجهالة حال موسى بن جبير .
فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (10882) ، وقال :" يخطئ ويخالف " ، ووثقه الذهبي في "الكاشف" (5687) ، ، وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/257) :" حال موسى بن جبير لا تعرف " . انتهى ، وقال الزركشي في "التذكرة في الأحاديث المشتهرة" (ص205) ، وابن حجر في "تقريب التهذيب" (6954) :" مستور ". انتهى
وأما زهير بن محمد التميمي : فهو صدوق ؛ إلا أن في رواية الشاميين عنه نكارة ، ورواية العراقيين عنه صحيحة ، نصّ على ذلك الإمام البخاري رحمه الله .
قال الترمذي في "العلل الكبير" (ص395) :" قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَادِيثُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ , مُقَارِبَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ ، وَلَكِنِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَأَبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَأَهْلُ الشَّامِ : يَرْووُنَ عَنْهُ مَنَاكِيرَ ". انتهى
ونصّ الإمام أحمد على أن رواية عبد الرحمن بن مهدي وأبي عامر العقدي عن زهير بن محمد مستقيمة ، نقله المزي في "تهذيب الكمال" (9/417).
وهذا الطريق رواه عن زهير عبد الرحمن بن مهدي كما في "مسند الإمام أحمد" (23155) ، وأبو عامر العقدي كما في "سنن أبي داود" (4309) ، وكلاهما من أهل البصرة .
الطريق الثاني : عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
أخرجه أبو داود في "سننه" (4302) ، والنسائي في "سننه" (3276) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (18597) ، من طريق أَبِي زُرْعَةَ السَّيْبَانِيِّ ، عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ ، رَجُلٍ مِنَ الْمُحَرَّرِينَ ، عَنْ رَجُلٍ ، مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: دعوا الحَبَشة ما وَدَعُوكم ، واتركوا التُّرك ما تَركوكم .
وإسناده ضعيف أيضا ، لجهالة حال أبي سكينة .
قال فيه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (2/348) :" أبو سكينة : اسمه زياد بن مالك ، ولم أسمع فيه بتجريح ولا بتعديل ". انتهى ، وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/93) :" شيخ مستور ، ما وثق ولا ضعف ، فهو جائز الحديث ، روى عنه جعفر بن برقان ، وأبو بكر بن أبي مريم ، تفرد بحديث: دعوا الحبشة ما ودعوكم ". انتهى
الطريق الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه .
أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (764) ، من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: اتْرُكُوا الْحَبَشَةَ مَا تَرَكُوكُمْ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَخْرِجُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ إِلَّا ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ .
وإسناده ضعيف ، لإبهام الواسطة بين ابن جريج ، وصالح بن أبي صالح .
والحديث حسن بمجموع هذه الطرق الثلاث ، حيث إن علة الضعف في الطريق الأول : هي جهالة حال موسى بن جبير ، وهو من طبقة أتباع التابعين ، وعلة الضعف في الطريق الثاني هي جهالة حال أبي سكينة ، وهو من طبقة كبار التابعين .
ومعلوم أن مجهول الحال ، في طبقة التابعين : لا يرد حديثه إلا إذا كان فيه نكارة أو خولف ، فإن توبع ، كما هو الحال هنا فالحديث يكون حسنا إن شاء الله .
قال الإمام الذهبي في "ديوان الضعفاء" (ص478) :" وأما المجهولون من الرواة : فإن كان الرجل من كبار التابعين ، أو أوساطهم : احتمل حديثه ، وتلقي بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول ، وركاكة الألفاظ .
وإن كان الرجل منهم ، من صغار التابعين : فيُتأنى في رواية خبره ، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه ، وعدم ذلك .
وإن كان المجهول من أتباع التابعين ، فمن بعدهم : فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد ". انتهى
ولأجل ذلك : فإن الحديث حسنه الشيخ الألباني بطرقه كما في "السلسلة الصحيحة" (722) .
الطريق الرابع : عن عمرو بن عوف المزني .
أخرجه ابن عدي في "الكامل" (7/195) ، من طريق عَبد اللَّه بن نافع ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبد اللَّهِ المزني ، عن أبيه ، عَن جَدِّهِ ، قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اتْرُكُوا هَؤُلاءِ الحبشة ما تركوكم .
وإسناده تالف ، فيه " كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني " ، كذّبه أبو داود كما في "تهذيب الكمال" (24/138) ، وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/221) :" مُنكر الحَدِيث جدا يروي عَن أَبِيه عَن جده نُسْخَة مَوْضُوعَة ، لَا يحل ذكرهَا فِي الْكتب ، وَلَا الرِّوَايَة عَنهُ إِلَّا على جِهَة التَّعَجُّب .
وَكَانَ الشَّافِعِي رَحمَه الله يَقُول : كثير بن عبد الله الْمُزنِيّ ركن من أَرْكَان الْكَذِب ". انتهى
فتبين مما سبق أن الحديث حسن بمجموع طرقه الثلاث الأُول .
وأصل الحديث ثابت بأن تخريب الكعبة سيكون على يد ذي السويقتين رجل من الحبشة
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (1591) ، ومسلم في "صحيحه" (2909) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ .
النقطة الثانية :
وهي ما فهمه السائل من الحديث : أنه لا أحد يمكنه أن يهاجم الكعبة سوى الحبشي ، فكيف وقد تعرضت الكعبة للهجوم أكثر من مرة ؟
وجوابه :
أن الحديث لم يفد أبدا هذا المعنى ، ولا يدل عليه ، وإنما يُثبت أن من سيستخرج كنز الكعبة ، ويخربها : هو ذاك الحبشي ، وهذا لا ينفي تعرضها للهجوم قبل ذلك الحدث .
ومعلوم أنها تعرضت للهجوم على يد الحجاج بن يوسف الثقفي ، وإن كان لم يقصد الكعبة بالهدم ، ثم تعرضت للهجوم من قبل القرامطة .
لكن الذي تدل عليه الأحاديث : أن خراب الكعبة في آخر الزمان سيكون على يد هذا الحبشي .
قال أبو الطيب المكي في "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" (1/176) :
" وجزم السهيلي بأن تخريب الحبشي للكعبة يكون بعد رفع القرآن ، وذلك بعد موت عيسى عليه السلام ، على ما ذكر ابن جماعة . قال: وصححه بعض العلماء المتأخرين ، ونقل عن الحليمي أن ذلك في زمن عيسى عليه السلام ". انتهى
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (19/242) :" لِأَنَّ الْكَعْبَةَ يَحُجُّهَا النَّاسُ ، وَيَعْتَمِرُونَ بِهَا ، بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَلَاكِهِمْ ، وَطُمَأْنِينَةِ النَّاسِ وَكَثْرَةِ أَرْزَاقِهِمْ فِي زَمَانِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، فَيَقْبِضُ بِهَا رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ، وَيُتَوَفَّى نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَيُدْفَنُ بِالْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ يَكُونُ خَرَابُ الْكَعْبَةِ عَلَى يَدَيْ ذِي السُّوَيْقَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا ". انتهى
فلعله قد اتضح المعنى بهذا البيان ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كلام الصدق ، لا ينطق عن الهوى .
والواجب على المسلم إذا جاءه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أن يظن به الذي هو أهدى وأتقى .
ففي الحديث الذي رواه أحمد في "مسنده" (986) ، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا ، فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْيَاهُ ، وَأَهْدَاهُ ، وَأَتْقَاهُ " .
وإسناده صحيح .
رزقنا الله وإياكم حسن الاتباع ، وحفظ الله بيته الحرام من كل سوء ، آمين .