الحمد لله.
أولا:
قد أرشد الوحي إلى كتابة الدين والاشهاد عليه؛ حيث قال الله تعالى:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا البقرة/282.
وقد اختلف أهل العلم في توجيه هذا الأمر بكتابة الدين والاشهاد عليه؛ فذهب البعض إلى الأخذ بظاهر الأمر، فقالوا بالوجوب؛ وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه أمر ارشاد وندب لا وجوب.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" ذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها، فُرِض بهذه الآية، بيعا كان أو قرضا، لئلا يقع فيه نسيان أو جحود، وهو اختيار الطبري...
وقال الجمهور: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب " انتهى من "تفسير القرطبي" (4 / 431).
وحجة جماهير أهل العلم على أن الأمر للإرشاد والندب لا للوجوب:
الأمر الأول:
أن الآية التي بعدها احتوت على قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، وهي قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ البقرة /283.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ )، ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب، ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ) الآية؛ لأن الرهن لا يجب إجماعا، وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية، فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا، وصرح بعدم الوجوب بقوله: ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ )، فالتحقيق أن الأمر في قوله: ( فَاكْتُبُوهُ ) للندب والإرشاد " انتهى من "أضواء البيان" (1 / 306).
الأمر الثاني:
أن صاحب المال يجوز له في الأصل أن يهبه ويتنازل عنه، فيجوز له التساهل في ترك الكتابة؛ لكن الأفضل أن يكتب من باب الاحتياط للمال وسد باب النزاع.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" لأن الله تعالى ندب إلى الكتاب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس " انتهى من "تفسير القرطبي" (4 / 431).
الأمر الثالث:
أن الامر لو كان للوجوب؛ لالتزمه السلف الصالح من صحابة وتابعين وأئمة متبعين؛ ولظهر لهذا أثر في المرويات لكثرة مباشرة الناس للديون والبيوع؛ فلذا كانت ندرة الأخبار عن توثيق الديون بالكتابة والاشهاد؛ إشارة إلى أن الأمر للندب ، فلذا حصل تساهل في التوثيق.
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
" ولا خلاف بين فقهاء الأمصار؛ أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن، المذكور جميعه في هذه الآية : ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط ، للدين والدنيا، وأن شيئا منه غير واجب، وقد نقلت الأمة ، خلف عن سلف : عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم ، من غير إشهاد ، مع علم فقهائهم بذلك ، من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه ، مع علمهم به . وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا .
وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها، لورد النقل به متواترا مستفيضا، ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد؛ فلما لم ينقل عنهم الإشهاد ، بالنقل المستفيض ، ولا إظهار النكير على تاركه من العامة : ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات : غير واجبين " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 206).
وعلق القرطبي على كلام شبيه بهذا القول:
" هذا كله استدلال حسن " انتهى من "تفسير القرطبي" (4 / 461).
ثانيا:
والحديث الذي سألت عنه يستدل به بعض من يقول بوجوب كتابة الدين؛ ويوجهون معناه؛ إلى أن رد الدعاء لا يكون إلا نقمة، والنقم تنزل بسبب المعاصي.
لكن الراجح أن هذا الحديث لا يرد قول الجمهور بإن الكتابة والاشهاد مندوبان غير واجبين، وبيان ذلك كالآتي:
هذا الحديث يروى من أوجه عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وأقوم هذه الأوجه رواية شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقد اختلف الرواة عن شعبة في هذا الحديث.
فرواه الثقات عن شعبة على أنه من كلام أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، موقوفا عليه؛ ومن ضمنهم أخص الرواة عنه ، وأقربهم إليه : ابن زوجته ، غندر ، محمد بن جعفر؛ كما روى ذلك الطبري في "تفسيره" (7 / 564) وابن المنذر في "التفسير" (1 / 67) باسناديهما:
عن مُحَمَّد بْن جَعْفَرٍ، قَالَ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخَلْقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: ( وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ )، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٍ، فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ ".
وفي "مسائل حرب الكرماني للإمام أحمد":
" قلت: حديث شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم )؟
قال: ليس هو عندنا مسندًا، وحدثنا غندر غير مسند " انتهى من "مسائل حرب الكرماني للإمام أحمد – من كتاب النكاح" (3 / 1239).
وبنحو هذا رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3 / 559) من رواية يَحْيَى بْن سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: ( ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ أَعْطَى سَفِيهًا مَالَهُ ... ).
قال الحاكم في "المستدرك" (2 / 302): بأن أَصْحَابِ شُعْبَةَ أوقفوا هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي مُوسَى ، ووافقه الذهبي بقوله: " ولم يخرجاه ، لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفا... " انتهى.
وقال الذهبي في كتابه "المهذب في اختصار السنن الكبرى للبيهقي" (8 / 4149):
" مع نكارته : إسناده نظيف ".
وقد سُئلت "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء":
" عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يستجاب لهم. . . ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه ) رواه الحاكم في (مستدركه) وهو في (صحيح الجامع) . ما هو فقه هذه القطعة من الحديث؟
فأجابوا: هذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومتنه منكر، كما نص على ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
بكر أبو زيد ، صالح الفوزان ، عبد العزيز آل الشيخ ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية" (3 / 236).
والحديث : أورده الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله تعالى في كتابه "أحاديث معلة ظاهرها الصحة" (ص 270).
وقد روى بعض أصحاب شعبة هذا الحديث عن شعبة ، لكن منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فروى الحاكم في "المستدرك" (2 / 302) بإسناده عن مُعَاذ بْن مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ، ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ آتَى سَفِيهًا مَالَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ .
وقال الحاكم: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ؛ لِتَوْقِيفِ أَصْحَابِ شُعْبَةَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي مُوسَى "، ووافقه الذهبي.
وهذا الراوي عن شعبة وهو مُعَاذ بْن مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ، هو من الثقات في الرواية عن شعبة، لا يقل شأنا عن غندر محمد بن جعفر.
قال الدارمي:
" سَأَلت يحيى بن معِين عَن أَصْحَاب شُعْبَة قلت:...
فمعاذ أثبت فِي شُعْبَة أم غنْدر؟ فَقَالَ: ثِقَة وثقة " انتهى من" تاريخ ابن معين، رواية عثمان الدارمي" (ص 65).
ولمكانة هذا الراوي مُعَاذ بْن مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ، قبل هذا الحديث الطحاوي، كما نص على ذلك في "شرح مشكل الآثار" (6 / 358)، وصححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1805) لوجود من تابعه على رفع الحديث؛ حيث قال:
" فالسند ظاهره الصحة؛ لكن قد يعله توقيف أصحاب شعبة له، إلا أنه لم ينفرد به معاذ بن معاذ، بل تابعه:
داود بن إبراهيم الواسطي: حدثنا شعبة به. أخرجه أبو نعيم في " مسانيد أبي
يحيى فراس " (ق 92 / 1) وداود هذا ثقة كما في " الجرح " (1 / 2 / 407) .
وتابعه عمرو بن حكام أيضا، وفيه ضعف. أخرجه أبو نعيم أيضا والطحاوي.
وتابعه عثمان بن عمر وهو ثقة أيضا قال حدثنا شعبة به. أخرجه الديلمي (2 /
58) " انتهى.
لكن رواية داود بن إبراهيم الواسطي فيها مخالفة في سياق المتن، تقطع بوجود وهم في هذه الرواية؛ حيث رواه أبو نعيم في كتابه " مسانيد أبي يحيى فراس بن يحيى الْمُكَتِّبِ" (ص 93)، قال:
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ: رَجُلٌ تَحْتَهُ امْرَأَةُ سَوْءٍ فَلَا يُطَلِّقُهَا، وَرَجُلٌ لَهُ جَارُ سَوْءٍ فَلَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ غَرِيمُ سَوْءٍ، فَأَعْطَاهُ الْبَعْضَ فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَذَهَبَ الْكُلُّ .
و الخلاصة؛ أن غاية حال هذا الإسناد أنه مضطرب.
وعلى فرض صحة رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسل؛ فالمتجه أن عدم الاستجابة ليس في كل ما يدعو به، وإنما هو خاص بالدعاء المتعلق بمظلمته تلك، فيكون دعاء هؤلاء مستثنى من دعوة المظلوم المستجابة، لأنه هو الذي فرط ، وأدخل على نفسه هذه الظُّلامة:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ رواه البخاري (2448) ، ومسلم (19).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ رواه أبو داود (1536) ، والترمذي (1905)، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ".
قال السندي رحمه الله تعالى:
" قوله: (دعوة المظلوم) أي: في حق الظالم " انتهى من "شرح سنن ابن ماجه" (2 / 439).
فهؤلاء الثلاثة رغم أنهم مظلومون إلا أنهم استثنوا من الإجابة بسبب أنهم هم المعرّضون لأنفسهم إلى هذا البلاء مع قدرتهم على تجنبه.
قال أبو بكر الجصاص رحمه الله تعالى:
" وما روي عن أبي موسى: ( ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد ) فلا دلالة على أنه رآه واجبا ؛ ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق ، فلم يطلقها، ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها!!
وإنما هذا القول منه : على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط ، والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص " انتهى من "أحكام القرآن" (2 / 206).
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:
" ومعنى هذا أن الله لما أمر بالإشهاد على البيع، وأن لا نؤتي السفهاء أموالنا ، حفظا لها، وعلمنا أن الطلاق شرع عند الحاجة إليه؛ كان التارك لما أرشده الله إليه : قد يقع فيما يكره، ولم يجب دعاؤه؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه " انتهى من "الموافقات" (1 / 534 - 535).
فالحاصل؛ أن رد دعوته لا يلزم منه أنه وقع في معصية؛ وإنما هو تأديب من الله لعباده أن يقرنوا الدعاء بالاجتهاد في اتخاذ الأسباب المشروعة لحفظ مصالحهم وعدم التهاون في ذلك.
والله أعلم.