الحمد لله.
أولا :
علم مقاصد الشريعة له تعلق بعلم أصول الفقه ، وبعلم قواعد الفقه ، فهو جزء منهما .
ويعرف علم مقاصد الشريعة بأنه : "الحِكم والغايات التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها من خلال الأحكام الشرعية" .
وتنقسم المقاصد إلى قسمين :
الأول : مقاصد عامة .
وهي تحقيق مصالح الناس جميعا في الدنيا والآخرة ، ويتحقق هذا من خلال أحكام الشريعة الإسلامية كلها ، فإنها لو طبقت التطبيق الكامل الذي أراده الله ، لتحقق للناس مصالحهم كلها – ولم يفتهم من ذلك شيء- في الدنيا والآخرة .
الثاني : مقاصد خاصة .
وهو تحقيق مصالح خاصة بمجال معين من مجالات الحياة ، كالجانب الاقتصادي أو الأسري أو السياسي .. إلخ ، وذلك عن طريق الأحكام التفصيلية التي شرعت لكل مجال على حدة .
مع التنبيه على أمر مهم، وهو أن أحكام الإسلام هي منظومة واحدة ، تؤدي إلى نتائجها في حال اجتماعها ، فلا يجوز الاقتصار على أخذ بعض أحكامها دون بعض ، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى نوع خلل ، ونقصان في المصالح ، أو فواتها واضطربها . قال الله تعالى : أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ البقرة/85.
وقال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً البقرة/208 .
أي : اعملوا بجميع شرائع الإسلام .
ينظر : تفسير ابن كثير (1/565) ، والسعدي (ص 94) .
ثانيا :
المصالح التي تسعى الشريعة لتحقيقها على ثلاث مراتب :
الأولى : الضروريات .
وهي ما لا يستغني الناس عن وجودها ، فلا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا ، وبدونها يختل نظام الحياة ، أو يشق على الناس مشقة شديدة لا تحتمل ، ويفوتهم في الآخرة النجاة والنعيم .
والضروريات خمسة ، وهي :
حفظ الدين ، والنفس ، والنسل ، والعقل ، والمال .
وقد شرع الإسلام أحكاما تفصيلية كثيرة ، تؤدي بمجموعها إلى الوصول إلى هذا المقصد ، وهو حفظ تلك الضروريات .
أما حفظ الدين ، فكالدعوة إليه ، وإقامة البراهين والحجج على صحته ، وعلى بطلان سائر الأديان ، ومشروعية عقوبة المرتد ، حتى لا يتلاعب الناس بالدين ، ومشروعية الجهاد في سبيل الله ، والإلزام بالقيام بأركان الإسلام وعباداته ، وما يتبع ذلك من شعائر الدين الظاهرة كالأذان والإقامة للصلاة ، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين ... ، وعقوبة الداعي إلى البدع .. إلخ .
وأما حفظ النفس ، فشرع الإسلام نصرة المظلومين ، ولو كان ذلك بإعلان النفير العام للجهاد في سبيل الله .
كما شرع بعض الرخص إذا تعرضت النفس للهلاك ، كأكل الميتة للمضطر ، وكالفطر للمسافر والمريض ، إذا كان صومه سيؤدي إلى هلاكه أو تلف عضو من أعضائه .
كما أوجب القصاص أو الدية على من قتل نفسا بغير حق ، أو اعتدى على نفس معصومة بقطع طرف من الأطراف ونحو ذلك ، حسب ما هو مفصل في كتب الفقه .
وأما حفظ النسل ، فشرع الإسلام الزواج ، لحصول الذرية ، ليبقى النوع الإنساني على الأرض ، وأمر بتربية الأولاد على الإسلام وعلى الأخلاق العالية ، حتى تحصل الحكمة من وجود بني آدم في الآرض ، وهي عبادة الله تعالى وحده ، وتعمير الكون بطاعة الله تعالى ، وحرم الفاحشة وكل ما يؤدي إليها ، وحرم القذف ، وهو الطعن في الأعراض ، وأوجب الحد على من ارتكب جريمة الزنا أو القذف .
وأما حفظ العقل ، فحرم الإسلام كل ما من شأنه أن يذهب عقل الإنسان ، وأوجب الحد على من شرب مسكرا ، كالخمر والحشيشة ... وغيرها .
وأما حفظ المال ، فأمر بالسعي لطلب الرزق ، ورغب في ذلك ، وجعل الأصل في المعاملات المالية وطرق التكسب أنها مباحة حلال ، ولا يحرم منها إلا ما نهى الشرع عنه .
كما حرم السرقة والاعتداء على مال الغير ، وأوجب الحد على السارق وعلى قاطع الطريق ، كما حرم الغش والخداع في المعاملات ، بل نهى الإنسان نفسه أن يضيع ماله وينفقه في غير منفعة.
المرتبة الثانية من مراتب مقاصد التشريع : الحاجيات .
وهي ما يحتاج الناس إليه لتحقيق مصالح هامة في حياتهم ، يؤدي غيابها إلى مشقة الحياة وصعوبتها على الناس ، وإن كان لا يؤدي إلى الإخلال بأصل من الأصول الخمسة السابقة .
كمشروعية الرخص دفعًا للحرج والمشقة عن الناس ، كرخص السفر ، والمرض ، والعذر في ترك صلاة الجماعة أو الجمعة في بعض الحالات ، وكالتمتع بالطيبات مما هو حلال ، مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا .. وما أشبه ذلك ، وكمشروعية بعض أحكام البيوع والمعاملات المالية ، كمشروعية المشاركات ، والإجارة ، والسلم ، وتضمين الصناع ، وتملك المباحات كالصيد والاحتطاب والاحتشاش ... ونحو ذلك .
فلو حرمت الشريعة ذلك لوقع الناس في حرج وضيق .
وأما التحسينات :
فهي ما يتم بها تجميل أحوال الناس ، وتصرفاتهم ، فتكون جارية على محاسن العادات ، وتجنب ما تأنفه العقول الراجحة ، ويجمع ذلك "مكارم الأخلاق" .
وقد شرعت الشريعة الإسلامية للوصول إلى هذا المقصد أحكاما كثيرة لا يمكن استيعابها .
كالطهارة وآداب الخلاء واللباس والطعام ، وآداب المجالس ، ودخول البيوت والاستئذان .
وآداب المعاملة مع الصغير والكبير ، وآداب وحقوق الدار .. وكون الولي هو الذي يتولى عقد النكاح للمرأة ، والترغيب في عتق العبيد وتشريع الأحكام التي تؤدي إلى ذلك ..
وكالمنع من قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد ... ونحو ذلك من الأحكام التي تهدف إلى أن تكون حياة الناس ومعاملاتهم على أكمل ما يكون وأحسن ما يكون من الآداب .
ثالثا :
ظهرت مقاصد الشريعة في عصر الصحابة رضي الله عنهم، في الفهم والاستنباط ، وإيجاد الحلول للمشكلات الجديدة الطارئة.
ومن ذلك:
1 - قتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة وقوله: "والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها"، والمقصد من قول وفعل أبي بكر رضي الله عنه : هو المحافظة على الدين، واستقرار الدولة الإسلامية.
2 - جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: بناء على مقصد حفظ الدين الإسلامي بحفظ مصدره.
3 - تضمين الصناع: في عهد علي رضي الله عنه: بناءً على مقصد المحافظة على المال.
رابعا :
في عصر نشأة المذاهب الإسلامية وبعده:
كان علم المقاصد مبثوثا تحت الكلام على مصطلحات: العلة، والحكمة، والمصلحة، والمعنى، والمغزى، ومراد الشارع، وأسرار الشريعة، والقياس، والاستصلاح، وسد الذرائع، قبل أن يتبلور تحت هذا اللقب: علم مقاصد الشريعة.
وقد ألف الفقهاء في هذا العلم مؤلفات، منها: كتاب محاسن الشريعة، لأبي بكر القفال الكبير، وكتاب مقاصد الصلاة، للحكيم الترمذي، وما بثه علماء الأصول في كتب أصول الفقه، كما فعل إمام الحرمين الجويني في كتاب "البرهان في أصول الفقه"، ثم أبو حامد الغزالي، في كتابه المستصفى وشفاء الغليل، ثم الرازي في كتابه "المحصول".
وجاء بعد هؤلاء من كان له عناية أكبر بالمقاصد، كالعز بن عبدالسلام في كتابه: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وكتابه: "الفوائد في اختصار المقاصد"، ثم الشاطبي، الذي شهر هذا العلم، وجعل له كيانًا مستقلًّا، وذلك في كتابه: "الموافقات في أصول الشريعة" .
خامسا :
في العصر الحديث:
توالت التآليف في هذا العلم، وكان من أشهرها: كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ).
وينظر:
"الموافقات" للشاطبي (2/6 وما بعدها) .
و https://www.alukah.net/sharia/0/96796/#ixzz5abOdMXGQ
و http://fiqh.islammessage.com/NewsDetails.aspx?id=8770
والله أعلم.