الحمد لله.
أولا :
الحديث المذكور :
أخرجه الترمذي في "سننه" (2341) ، وأحمد في "مسنده" (440) ، والحاكم في "المستدرك" (7866) ، والضياء في "المختارة" (331) ، جميعا من طريق حُرَيْث بْن السَّائِبِ ، قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ ، يَقُولُ: حَدَّثَنِي حُمْرَانُ بْنُ أَبَانَ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الخِصَالِ ، بَيْتٌ يَسْكُنُهُ ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ ، وَجِلْفُ الخُبْزِ وَالمَاءِ .
والحديث أعله أحمد كما في "المنتخب من علل الخلال" (3) ، والدارقطني في "العلل" (3/29) ، وضعفه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/799) .
وقال فيه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1063) :" منكر ". ، انتهى
ثانيا :
معنى الحديث اختلف فيه أهل العلم ، وذلك لاختلافهم في معنى الحق في قوله :" ليس لابن آدم حق " .
فمنهم من قال : إن الحق هنا ، بمعنى " الحاجة " ؛ أي ليس لابن آدم حاجة وضرورة في هذه الدنيا ؛ إلا في هذه الثلاث ، أي أن هذه الثلاث : تحصل بها الكفاية ، ولا لمعنى لطلب ما وراءها .
ومنهم من قال : إن الحق بمعنى: ما أعطاه الله له ، من غير تبعة في الآخرة ولا سؤال عنه.
قال الطيبي في "شرح المشكاة" (10/3289) :" أراد بـ ( الحق ) ما يستحقه الإنسان ، لافتقاره إليه ، وتوقفه تعيشه عليه ، وما هو المقصود الحقيقي من المال.
وقيل: أراد به ما لم يكن له تبعة حساب ، إذا كان مكتسبا من وجه حلال ". انتهى
ولعل الأقرب في المعنى ، هو : أن الحق بمعنى : ما وجب له من الله ، من غير تبعة ، أو سؤال عنه في الآخرة .
ومما يقوي هذا المعنى ما أخرجه أحمد في "مسنده" (20768) ، من حديث أَبِي عَسِيبٍ ، قَالَ: " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا ، فَمَرَّ بِي ، فَدَعَانِي إِلَيْهِ ، فَخَرَجْتُ ، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ فَدَعَاهُ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ، ثُمَّ بِعُمَرَ فَدَعَاهُ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ، فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ: أَطْعِمْنَا بُسْرًا ، فَجَاءَ بِعِذْقٍ فَوَضَعَهُ ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ بَارِدٍ فَشَرِبَ ، فَقَالَ: لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ: فَأَخَذَ عُمَرُ الْعِذْقَ ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ حَتَّى تَنَاثَرَ الْبُسْرُ قِبَلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَئِنَّا لَمَسْئُولُونَ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: خِرْقَةٍ كَفَّ بِهَا الرَّجُلُ عَوْرَتَهُ ، أَوْ كِسْرَةٍ سَدَّ بِهَا جَوْعَتَهُ ، أَوْ حَجَرٍ يَتَدَخَّلُ فِيهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْقُرِّ .
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3221)
وبالتالي فلا تعارض بين هذا المعنى ، إن ثبتت به الرواية ، وبين : أن الله أحل لنا الطيبات من الرزق ؛ حيث إنه مباح للمسلم من غير سرف أو مخيلة ، أن يستمتع بما أعطاه الله من الحلال الطيب ، إلا أنه سيُسأل عنه يوم القيامة هل أدى شكره أم لا ؟ إلا هذه الثلاث التي جاءت في الحديث ، على تأويل من تأول ذلك من أهل العلم .
ومما يؤيد ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد في "مسنده" (6695) ، من حديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُوا ، وَاشْرَبُوا ، وَتَصَدَّقُوا ، وَالْبَسُوا ، غَيْرَ مَخِيلَةٍ ، وَلَا سَرَفٍ .
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2145) .
أو أن المراد به : حث العبد على ترك الانشغال بفضول الدنيا ، فيما زاد على حوائجه الأصلي ، وصرف الهمة إلى الباقيات الصالحات ، التي تنفعه عند الله يوم القيامة . وهذا المعنى : ثابت مقرر في الشريعة ، بأدلة كثيرة مشهورة ، تعرف في باب "الزهد" في الدنيا .
والله أعلم .