الحمد لله.
ذكر العلماء في معنى النسيان الذي وصف به آدم عليه السلام قولان :
الأول : أنه بمعنى الترك .
والترك لا ينافي العمد ، فمعنى الآية : أن الله عهد إلى آدم، فترك عهده .
انظر : " تفسير الطبري " (16/ 181) .
الثاني : أنه بمعنى السهو .
قال البغوي : " يجوز أن يكون نسي أمره، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعًا عن الإنسان، بل كان مؤاخذا به، وإنما رفع عنا " ، " تفسير البغوي " (5/ 298).
انظر في الأقوال : " النكت والعيون " للماوردي (3/ 430).
يقول " السعدي " : " ولقد وصينا آدم وأمرناه ، وعهدنا إليه عهدا ليقوم به ، فالتزمه ، وأذعن له وانقاد ، وعزم على القيام به ، ومع ذلك نسي ما أُمر به ، وانتقضت عزيمته المحكمة ، فجرى عليه ما جرى ، فصار عبرة لذريته ، وصارت طبائعهم مثل طبيعته ، نسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ فخطئوا ، ولم يثبت على العزم المؤكد ، وهم كذلك ، وبادر بالتوبة من خطيئته ، وأقر بها واعترف ، فغفرت له ، ومن يشابه أباه فما ظلم " ، انتهى من " تفسير السعدي" (514).
ويقول الشيخ " الشنقيطي " في " أضواء البيان " (4/ 103) : " وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَنَسِيَ ) فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ التُّرْكُ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ التَّرْكِ عَمْدًا.
وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ النِّسْيَانَ، وَتُرِيدُ بِهِ التَّرْكَ، وَلَوْ عَمْدًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) ، فَالْمُرَادُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : التَّرْكُ قَصْدًا.
.... وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( فَنَسِيَ ) أَيْ : تَرَكَ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ ، وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ، يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدِّهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْيَانِ فِي الْآيَةِ : النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الذِّكْرِ، لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَقْسَمَ لَهُ بِاللَّهِ، أَنَّهُ لَهُ نَاصِحٌ فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْهَا؛ غَرَّهُ ، وَخَدَعَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَنْسَاهُ الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ . كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَان، لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اهـ. وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِنَسْيِهِ ... وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) .
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي ، فَفِيهِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، لِأَنَّ النَّاسِيَ مَعْذُورٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ فِيهِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عِنْدِي عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا بِالنِّسْيَانِ .
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي كِتَابِي ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) : الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْعُذْرَ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ وَالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَقَوْلِهِ هُنَا ( فَنَسِيَ ) ، مَعَ قَوْلِهِ ( وَعَصَى ) ؛ فَأُسْنِدَ إِلَيْهِ النِّسْيَانُ، وَالْعِصْيَانُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالنِّسْيَانِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ.
فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْفُوًّا عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ، وَتَعْظِيمِ الْمِنَّةِ عَظِيمُ مُوقِعٍ.
وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ( كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
فَقَوْلُهُ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي : يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِأُمَّتِهِ، وَلَيْسَ مَفْهُومَ لَقَبٍ، لِأَنَّ مَنَاطَ التَّجَاوُزِ عَنْ ذَلِكَ: هُوَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ " انتهى من "أضواء البيان" (4/ 103).
والحاصل:
أن لأهل العلم قولين في معنى نسيان آدم عليه السلام، هل كان على معنى : الترك المتعمد ، وهذا معصية ظاهرة. أو كان على جهة الذهول، وعدم الذكر، ويكون العفو عن النسيان، على هذا، من خصائص الأمة المحمدية، وتخفيف الله عنها.
والله أعلم.