الحمد لله.
قال الله تعالى عن نبيه عيسى : وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ آل عمران/49 .
وفي سورة المائدة/110 : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ .
والسؤال عن الفرق بين التعبيرين ، ( وأحي الموتى ) في آل عمران ، ( وإذ تخرج الموتى ) .
فقد أشار بعض أهل العلم إلى اللفتة البلاغية في المغايرة بين العبارة في المقامين، باعتبار أن سورة آل عمران في سياق البشارة بعيسى عليه السلام ، وفي سياق تعريف بني إسرائيل بنبوته ورسالته ، فجاء الخطاب من عيسى مباشرة مسندًا القدرة إلى الله تعالى .
وأما آية المائدة ، فسياقها توبيخ النصارى ، فجاء الإسناد فيها من الله لعيسى ، لأنه إحسان من الله تعالى إليه .
قال الغرناطي : " آية آل عمران : إخبار وبشارة لمريم بما منح لابنها عيسى عليه السلام ، وبمقاله عليه السلام لبنى إسرائيل تعريفًا برسالته وتحديًا بمعجزاته وتبرئًا من دعوى استبداد أو انفراد بقدرة في مقاله: ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ) إلى قوله تعالى : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ ) إلى ما بعده ، ولم تتضمن هذه الآية غير البشارة والإعلام .
وأما آية المائدة : فقصد بها غير هذا ، وبنيت على توبيخ النصارى وتعنيفهم في مقالهم في عيسى عليه السلام ، فوردت متضمنة عده سبحانه إنعامه على نبيه عيسى عليه السلام، على طريقة تُجاري العتب ، وليس بعتب ، تقريرا يقطع بمن وقع في العظيمة ممن عبده .
ومثل ذلك فيما يجرى بيننا ، ولكلام الله سبحانه وتعالى المثل الأعلى : قول القائل لعبده الأحب إليه المتبرئ من عصيانه : ألم أفعل لك كذا ؟ ألم أعطك كذا ؟ ويعدد عليه نعمًا ، ثم يقول: أفعل لك ذلك غيرى؟ ، هل أحسنت إلى فلان إلا بما أعطيتك؟ هل قهرت عدوك إلا بمعونتي لك؟ فيقصد السيد بهذا قطع تخيل من ظن أن ما كان من هذا العبد من إحسان إلى أحد ، أو إرغام عدو أن ذلك من قبل نفسه ، مستبِدًا به ، وليس من قبل سيده .
فإذا قرره السيد على هذا ، واعترف العبد بأن ذلك كما قال السيد ؛ انقطعت حجة من ظن خلافه ، وتوهم استقلال العبد ، فعلى هذا النحو - والله أعلم - وردت الآية الكريمة .
ولذلك تكرر فيها ما تكرر مع الآيات قوله تعالى: ( بإذني ) وتكرر ذلك أربع مرات عقب أربع آيات مما خص به عليه السلام ، من: خلق الطير ، والنفخ فيه فيحيا ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وهى من الآيات التي ضل بسببها من ضل من النصارى ، وحملتهم على قولهم بالتثليث تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ...
فأعلم الله سبحانه وتعالى : أن تلك الآيات بإذنه ، وأكد ذلك تأكيدًا يرفع توهم حول أو قوة لغير الله سبحانه ، أو استبداد [ الاستبداد معناه: الانفراد بالتصرف ] ممن ظنه ، ونزه نبيه عيسى عليه السلام عن نسبة شيء من ذلك لنفسه ، مستقلًا بإيجاده ، أو ادعاء فعل شيء ، إلا بقدرة ربه سبحانه وإذنه ، وبرأه من شنيع مقالتهم.
ويزيد هذا الغرض بيانًا : ما أعقبت به هذا الآية من قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ...) الآيات ؛ فهل هذا للنصارى إلا أعظم توبيخ وتقريع ؟!
والمقصود منه : جواب عيسى عليه السلام بقوله في إخبار الله سبحانه عنه: ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) ، فافتتح بتنزيه ربه ، ثم نفى عن نفسه ما نسبوا إليه ، وأتبع بالتبري والتسليم لربه ، فقال: ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ).
فآية آل عمران بشارة ، وإخبار لمريم .
وآية المائدة واردة فيما يقوله سبحانه لعيسى عليه السلام توبيخًا للنصارى ، كما بينا .
فلما اختلف القصدان ، اختلفت العبارتان "، انتهى من " ملاك التأويل " (1/ 84 - 85).
وهذا فيما يتعلق باختلاف سياق القصة في السورتين، بصفة عامة .
وأما عن خصوص اختلاف التعبير بـ ( أحيي الموتى ) في سورة ، و ( أخرج الموتى ) في سورة أخرى ، فقد قال الشيخ محمد أبو زهرة ، رحمه الله ، في معجزات نبي الله عيسى عليه السلام:
" وهناك معجزة رابعة، وهي إحياء الموتى، وقد ذكرت هذه المعجزة في سورة آل عمران على لسان عيسى - عليه السلام - بما حكاه الله تعالى عنه بقوله: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ. . .).
والمذكور هنا هو قوله تعالى: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) . والنصان يتلاقيان في المؤدى، وإن اختلفا في اللفظ.
فالأول : يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى ، إذا لم يكن قد دفن، وذلك ما يدل عليه النص الأول.
والثاني : يدل على أنه قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى بعد دفنها ، ووضعها في قبورها، فقد كان عليه السلام يجري الله تعالى على يديه إخراجها من القبور ؛ أي أنها تحيا في قبرها، وتخرج إلى الوجود في حياة.
وإحياء الموتى ، بعد الدفن ، أو قبل الدفن : غير تصوير الطين طيرا ، ثم النفخ؛ لأن هذا إيجاد للحياة في جماد، والثاني إعادة للحياة .
وقد ذكرت كلمة (بإذني) في كل هذا، لبيان أن العمل ليس لعيسى، وإن جرى على يديه، إنما هو لله سبحانه وتعالى خالق كل شيء. " انتهى من "زهرة التفاسير" (5/2398).
والله أعلم.