ما أكثر مرويات البخاري من ناحية عدد الرجال في الإسناد الثلاثيات أو الخماسيات أو التساعيات ؟
الحمد لله.
الإسناد من خصائص هذه الأمة ، وكلما كان الإسناد أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات كان أعظم وأجل وأقرب إلى الصحة بلا شك .
قال ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص150) :" أصل الإسناد أولا : خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة وسنة بالغة من السنن المؤكدة ، روينا من غير وجه عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال : الإسناد من الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء
وطلب العلو فيه سنة أيضا ولذلك استحبت الرحلة فيه على ما سبق ذكره .
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف ، وقد روينا : أن يحيى بن معين رضي الله عنه قيل له في مرضه الذي مات فيه : ما تشتهي ؟ قال : بيت خالي وإسناد عالي .
قال ابن الصلاح : العلو يبعد الإسناد من الخلل ، لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا ففي قلتهم قلة جهات الخلل وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل وهذا جلي واضح "انتهى.
وأما الإمام الجليل، عظيم القدر، طيب الذكر، أمير المؤمنين في الحديث : محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله فقد ولد سنة 194هـ ، وتوفي سنة 256هـ ، وقد عدّه الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" (ص75) من الطبقة الحادية عشرة ، وقد كان الحافظ ابن حجر قسم طبقات الرواة إلى اثنتي عشرة طبقة ، وهم كما يلي:
قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (ص75) :" وأما الطبقات : فالأولى : الصحابة ، على اختلاف مراتبهم ، وتمييز من ليس له منهم إلا مجرد الرؤية من غيره . الثانية : طبقة كبار التابعين ، كابن المسيب ، فإن كان مخضرما صرحت بذلك . الثالثة : الطبقة الوسطى من التابعين ، كالحسن وابن سيرين . الرابعة : طبقة تليها ، جل روايتهم عن كبار التابعين ، كالزهري وقتادة . الخامسة : الطبقة الصغرى منهم ، الذين رأوا الواحد والاثنين ، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة ، كالأعمش . السادسة : طبقة عاصروا الخامسة ، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة ، كابن جريج . السابعة : كبار أتباع التابعين ، كمالك والثوري . الثامنة : الطبقة الوسطى منهم ، كابن عيينة وابن علية . التاسعة : الطبقة الصغرى من أتباع التابعين : كيزيد بن هارون ، والشافعي ، وأبي داود الطيالسي ، وعبد الرزاق . العاشرة : كبار الآخذين عن تبع الأتباع ، ممن لم يلق التابعين ، كأحمد بن حنبل . الحادية عشرة : الطبقة الوسطى من ذلك ، كالذهلي والبخاري . الطبقة الثانية عشرة : صغار الآخذين عن تبع الأتباع ، كالترمذي ، وألحقت بها باقي شيوخ الأئمة الستة ، الذين تأخرت وفاتهم قليلا ، كبعض شيوخ النسائي ". انتهى
ويتلخص من ذلك :
الطبقة الأولى : طبقة الصحابة .
الطبقة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة : طبقة التابعين .
الطبقة السادسة : لم يثبت لأحدهم لقاء أحد من الصحابة ، وإن كانت تُعد في التابعين .
الطبقة السابعة والثامنة والتاسعة : طبقة أتباع التابعين .
الطبقة العاشرة والحادية عشرة ومنهم الإمام البخاري والثانية عشرة : من الآخذين عن تبع الأتباع.
وإذا تأملنا ذلك ، مع معرفة أن أعمار الرواة تختلف فمنهم من تطول حياته ، ومنهم من هو دون ذلك ، فربما يدرك الراوي شيخا كبيرا يختصر عليه بعض الطبقات من الرواة ، وربما لم يستطع المحدث أن يأخذ الحديث إلا نازلا .
عند استقراء صحيح الإمام البخاري نجد ما يلي :
أولا : أن أعلى أسانيد البخاري في صحيحه هو الثلاثيات ، وهو ما كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الرواة فقط ، وعدد الثلاثيات في صحيح البخاري ( 22 ) حديثا .
وقد عدها اثنين وعشرين حديثا أكثر أهل العلم ، ومن هؤلاء :
أبو الخير الصفار في "ثلاثيات البخاري من رواية الكشميهني" ، والشيخ ملا علي القاري في "شرح ثلاثيات البخاري" ، والبيومي في "هدايات الباري في ثلاثيات البخاري" ، والبرماوي في "شرح ثلاثيات البخاري".
وذكر الشبيهي في "الفجر الساطع على الصحيح الجامع" (1/25) أنها ثلاثة وعشرون ، فقال :" وعدد أحاديثه الثلاثية ثلاثة وعشرون ". اهـ ، وعنه نقله ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (1/95) ، فقال :" ونجد أنزل سند فيه ، سند إسماعيل بن إدريس ، وهو تساعي . وأعلى سند فيه الثلاثيات ، وقد بلغت ثلاثة وعشرين ، على ما ذهب إليه الشبيهي في شرحه للجامع الصحيح ". انتهى ، وكذلك قال العيني في "عمدة القاري" (24/114) فقال :" وَهَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ من ثلاثيات البُخَارِيّ وَهُوَ آخر الثلاثيات ". انتهى
وغالب الظن أنه سبق قلم منه ، فإنه ذكر في شرح الحديث رقم (7208) وهو حديث :( يَا سَلَمَةُ أَلا تُبايعِ؟ ) أنه الحديث الحادي والعشرون من الثلاثيات ، فقال :" وَهَذَا هُوَ الْحَادِي وَالْعشْرُونَ من ثلاثيات البُخَارِيّ " انتهى .
ثم ذكر في شرح الحديث رقم : (7421) أنه الحديث الثالث والعشرون من الثلاثيات ، ولم يذكر بينهما حديثا من الثلاثيات ، فغالب الظن أنه سبق قلم ، والله أعلم .
وأما الشبيهي فإنه نص على أنها ثلاثة وعشرون في أول شرحه ، ثم لم يعدها عدا في أثناء شرحه .
وأول حديث ثلاثي فيه ، أخرجه البخاري في "صحيحه" (109) ، فقال : حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ ، عَنْ سَلَمَةَ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ .
قال ابن حجر في "فتح الباري" (1/201) :" وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوَّلُ ثُلَاثِيٍّ وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَعْلَى مِنَ الثُّلَاثِيَّاتِ ، وَقَدْ أُفْرِدَتْ فَبَلَغَتْ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ حَدِيثًا " انتهى .
وأما أنزل حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه ، فهو تُساعي ، أي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم تسعة من الرواة .
وهو حديث واحد في صحيح البخاري ، أخرجه في "صحيحه" (7135) ، فقال حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنِي أَخِي ، عَنْ سُلَيْمَانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا . قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخُبْثُ ".
قال ابن حجر في "فتح الباري" (13/107) في شرحه لهذا الحديث :" وَهَذَا السَّنَدُ كُلُّهُ مَدَنِيُّونَ ، وَهُوَ أَنْزَلُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ بِدَرَجَتَيْنِ ، وَيُقَالُ إِنَّهُ أَطْوَلُ سَنَدٍ فِي الْبُخَارِيِّ؛ فَإِنَّهُ تُسَاعِيٌّ ". انتهى
وقال ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (1/95) :" ونجد أنزل سند فيه ، سند إسماعيل بن إدريس*، وهو تساعي. وأعلى سند فيه الثلاثيات ، وقد بلغت ثلاثة وعشرين على ما ذهب إليه الشبيهي في شرحه للجامع الصحيح "انتهى .
* [تنبيه]: كذا وقع في المطبوع من كتاب ابن الملقن: "إسماعيل بن إدريس"، وصوابه : "ابن أبي أويس"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قوله وحدثنا إسماعيل هو بن أويس عبد الله الأصبحي وأخوه هو أبو بكر عبد الحميد" انتهى، من "فتح الباري" (13/107).
باستقراء صحيح الإمام البخاري نجد فيه الثلاثي وهو أعلى سند فيه ، والرباعي ، والخماسي ، والسداسي ، والسباعي ، والثماني ، والتساعي وهو أنزل سند فيه .
ونجد فيه كذلك أكثر أسانيد البخاري في صحيحه الخماسي ، وهو ما بين البخاري والنبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الرواة ، ويليه السداسي ، ثم الرباعي ، وهذا معلوم لمن أكثر النظر في صحيح البخاري .
ومن أراد الاستزادة يمكنه مراجعة جواب السؤال رقم : (89915 ) .
والله أعلم .