الحمد لله.
عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي!
فَقَالَ: ( خُذْهُ ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ ، وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ ) رواه البخاري (1473) ، ومسلم (1045).
فهذا الحديث ينص على مشروعية أخذ المسلم للمال الذي يأتيه من غير سؤال ولا تطلع نفس؛
أما ما سأله الناس أو تطلع إليه من أموالهم فلا ينبغي له أن يأخذه إلا للضرورة ، لأن في هذا السؤال والتطلع ثلاث مفاسد:
المفسدة الأولى: تعلق القلب بالخلق وطلب الرزق منهم ، وهذا فيه فساد لتوحيد المسلم وعبوديته لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فالعبد لا بد له من رزق ، وهو محتاج إلى ذلك ، فإذا طلب رزقه من الله ، صار عبدا لله ، فقيرا إليه ، وإن طلبه من مخلوق ، صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا إليه.
ولهذا كانت "مسألة المخلوق" محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة ، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد " انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 / 182).
المفسدة الثانية: أنّ سؤال الناس أموالهم، وتطلع النفس إليها؛ هو سبيل لأخذ أموالهم بالباطل؛ فكثيرا ما يعطي الناس السؤّال، ومن يتطلع لأموالهم؛ حياء، ومن غير طيب نفس، وأخذُ الأموال على هذا الوجه لا يحلّ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: " يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا يُحْسِنَانِ الثَّنَاءَ، يَذْكُرَانِ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُمَا دِينَارَيْنِ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَكِنَّ وَاللهِ فُلَانًا مَا هُوَ كَذَلِكَ ، لَقَدْ أَعْطَيْتُهُ مِنْ عَشَرَةٍ إِلَى مِائَةٍ، فَمَا يَقُولُ ذَاكَ ، أَمَا وَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُخْرِجُ مَسْأَلَتَهُ مِنْ عِنْدِي يَتَأَبَّطُهَا ) يَعْنِي تَكُونُ تَحْتَ إِبْطِهِ، يَعْنِي نَارًا، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُعْطِيهَا إِيَّاهُمْ؟ قَالَ: ( فَمَا أَصْنَعُ يَأْبَوْنَ إِلَّا ذَاكَ، وَيَأْبَى اللهُ لِي الْبُخْلَ ) .
رواه أحمد في مسنده (11004) بإسناد صحيح، وبنحو منه عند مسلم في صحيحه (1056).
المفسدة الثالثة : في التطلع والتشوف إلى أموال الناس ، مزيد تعلق للنفس بالدنيا وعدم الزهد فيها.
قال القرطبي رحمه الله تعالى عن حديث عمر السابق:
" قوله : (وأنت غير مشرف ولا سائل)؛ إشراف النفس: تطلعها، وتشوُّفها، وشرهها لأخذ المال.
ولا شك أن هذه الأمور إذا كانت هي الباعثة على الأخذ للمال؛ كان ذلك من أدلِّ دليل على شدّة الرغبة في الدنيا والحب لها، وعدم الزهد فيها، والركون إليها، والتوسّع فيها، وكل ذلك أحوال مذمومة ، فنهاه عن الأخذ على هذه الحالة ، اجتنابًا للمذموم ، وقمعًا لدواعي النفس ، ومخالفة لها في هواها ، فإن من لم يكن كذلك جاز له الأخذ للأمن من تلك العلل المذمومة " انتهى من "المفهم" (3 / 90).
كما أن التطلع إلى المال سبب لعدم البركة فيه .
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله تعالى حديث عمر السابق وحديث حَكِيم بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ). ثم قال:
" فتبين بهذين الحديثين أن الإنسان إذا كان سائلا بلسانه، أو مشرفا إلى ما يعطاه، فلا ينبغي أن يقبله، إلا حيث تباح له المسألة والاستشراف " انتهى من "مجموع الفتاوى" (25 / 94 - 95).
ثانيا :
الظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ ) يراد به أن تُعطى هذا المال ، سواء أعطاكه صاحبه حقيقة ، أو دعاك لأخذه ، وقد ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ، فَلْيَقْبَلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْهِ ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (14 / 48)، وروى نحوه من حديث عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو: ( مَنْ عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الرِّزْقِ، مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، وَلَا إِشْرَافٍ، فَلْيُوَسِّعْ بِهِ، فَإِنْ كَانَ عَنْهُ غَنِيًّا، فَلْيُوَجِّهْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنْهُ ) "المسند" (34 / 247).
فهذه الألفاظ يفسر بعضها بعضها .
ولأن بعض الأموال لا يتصور استلامها إلا بذهاب المعطَى له إليها ، كالعقارات ، أو ما جرت العادة والعرف بالذهاب إليه وحث الشرع على هذا الذهاب كطعام الولائم المشروعة.
وما ذكرته من الماء المسبل أو الطعام الذي يوضع للناس ، فهذا يشبه ما فعله عثمان رضي الله عنه ، حيث اشترى بئر رومة ، وجعلها لجميع المسلمين .
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ دَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: (... أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ بئر رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِثَمَنٍ فَابْتَعْتُهَا فَجَعَلْتُهَا لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَابْنِ السَّبِيلِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ، نَعَمْ ...) رواه الترمذي (3699).
ولا نعلم أن أحدا من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من إتيانها أو الشرب منها –ولو على سبيل الورع والأفضل- .
وأما الطعام الذي يوضع على السفرات في المسجد الحرام وغيره من المساجد لإفطار الصائمين ، فهو من الدعوة العامة التي لا حرج على من أجابها .
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
" فإن دعا الجفلى؛ بأن يقول: يا أيها الناس، أجيبوا إلى الوليمة. أو يقول الرسول: أمرت أن أدعو كل من لقيت، أو من شئت. لم تجب الإجابة، ولم تستحب؛ لأنه لم يعين بالدعوة، فلم تتعين عليه الإجابة، ولأنه غير منصوص عليه، ولا يحصل كسر قلب الداعي بترك إجابته، وتجوز الإجابة بهذا؛ لدخوله في عموم الدعاء " انتهى من "المغني" (10 / 194).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في "شرح زاد المستقنع":
" فإذا دعا الجفلى - وهي دعوة العموم - يقول المؤلف: "كرهت الإجابة"، والتعليل أن في ذلك دناءة بالنسبة للمدعو، ومفاخرة ومباهاة للداعي.
وهذا التعليل عليل، والصحيح أنها لا تكره بل هي جائزة، وقد ثبت أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرسل أنسا ـ رضي الله عنه ـ وقال له: ( ادع فلانا وفلانا ومن لقيت )، فعيّن في الأول، ثم عمم.
فالصحيح أن الإجابة ليست مكروهة، بل في ظني أن عدم الإجابة إلى الكراهة أقرب؛ لأنك إذا دعوت الناس جميعا، وتخلف واحد، قال الناس: هذا مترفع ومتكبر.
صحيح أن الإجابة لا تجب على كل واحد؛ لأن الدعوة عامة، فهي تشبه فرض الكفاية.
ولكن لا نقول: إنها مكروهة، بل الصواب أنها ليست بمكروهة، وليست بواجبة، لكن إذا علم أحد المدعوين أن صاحب الدعوة يُسر بحضوره، فينبغي له أن يجيب " انتهى من "الشرح الممتع" (12 / 332).
والخلاصة :
أنه لا يظهر حرج في الأخذ من الطعام والشراب المتبرع به ، ما دام الأخذ على الوجه الذي عينه المتبرع، أو الشرط الذي شرطه في وقفه .
وكذلك لا بأس بإجابة الدعوة العامة للإفطار في المساجد.
ولو استغنى المرء بطعام نفسه، وكسب يده عن ذلك كله: فهو خير، لا يلام عليه، بل التعفف مطلوب، مرغوب فيه مطلقا، خاصة لمن استغنى، وكان عنده ما يسد حاجته.
والله أعلم.