هل تدبر القرآن الكريم فرض؟
الحمد لله.
أولًا:
جاء مصطلح (التدبر) في الاستعمال القرآني في سياق بيان "الحكمة" من إنزال الكتاب، والغاية التي دُعي الناس إليها. قال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
وهذه الآية عامة، في حق الناس جميعا.
ولأجل ذلك، وردت الدعوة عامة للمشركين، أن يتدبروا كتاب الله، ويستدلوا على عظيم إحكامه، وعالي بيانه، على صدق مجيئه من عند رب العالمين. قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
ووقع الذم الشديد لمن أعرض عن "تدبر" القرآن، وتفهم معانيه؛ الأمر الذي حرمهم أنوار هداياته، وأبقاهم في الشرك وظلماته:
قال الله تعالى: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) محمد/24
قال ابن عاشور، رحمه الله: " والمعنى: أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب .
والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه". انتهى، من "التحرير والتنوير" (26/113).
وقال الشيخ السعدي، رحمه الله: "أي: فهلا يتدبر هؤلاء المعرضون لكتاب الله، ويتأملونه حق التأمل، فإنهم لو تدبروه، لدلهم على كل خير، ولحذرهم من كل شر، ولملأ قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من الإيقان، ولأوصلهم إلى المطالب العالية، والمواهب الغالية، ولبين لهم الطريق الموصلة إلى الله، وإلى جنته ومكملاتها ومفسداتها، والطريق الموصلة إلى العذاب، وبأي شيء تحذر، ولعرفهم بربهم، وأسمائه وصفاته وإحسانه، ولشوقهم إلى الثواب الجزيل، ورهبهم من العقاب الوبيل.
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أي: قد أغلق على ما فيها من الشر وأقفلت، فلا يدخلها خير أبدا؟
هذا هو الواقع" انتهى، من "تفسير السعدي" (788).
ثانيا:
تدور المعاني التي يذكرها علماء التفسير للتدبر حول معناه اللغوي، وهو: النظر في عاقبة الكلام، وإحسان التأمل فيه.
قال "ابن منظور": "ودبَّر الأمر وتدبَّره: نظر في عاقبته .. والتدبير في الأمر: أن تنظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، والتدبر: التفكر فيه"، انتهى.
"لسان العرب": (4/ 273).
وفي جمع دلالات معنى "التدبر" في اللغة، يقول "ابن القيم": عن التدبر "... لأنه نظرٌ في أدبار الأمور، وهي أواخرُها وعواقبُها.
ومنه: تدبُّر القول، قال تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ، وقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا .
وتدبُّرُ الكلام أن ينظرَ في أوَّله وآخره، ثمَّ يعيدَ نظره مرَّةً بعد مرَّة؛ ولهذا جاء على بناء التفعُّل، كالتجرُّع والتفهُّم والتبيُّن"، انتهى.
"مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" (1/ 525).
وتدبر القول عند علماء التفسير يدور حول: "إعمال الفكر، والنظر، والتأمل، والتفهم في آي القرآن الكريم، للوصول إلى معانيه ومقاصده، والعمل بما فيه".
انظر: "تدبر القرآن" للتويجري: (41).
ثانيًا:
ينبغي أن يُعلم أن التدبر في القرآن على درجات ومراتب، فبحسب ما يؤتيه الله للإنسان من علوم ومعارف = تكون استفادته من القرآن.
قال ابن القيم: " والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر فهمُه على مجرد اللفظ؛ دون سياقه، ودون إيمائِه وإشارته وتنبيهِه واعتباره.
وأخص من هذا وألطف: ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيَفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يَنْتبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا، وتعلقه به"، انتهى من " أعلام الموقعين"(3/126).
ثالثا:
قد حصل نوع من أنواع الشطط في مفهوم "التدبر" عند المعاصرين، وبعضهم حصره في استخراج المعاني الغامضة، واللطائف، والنكات الدقيقة، وهذا حصر لمفهوم واسع، بل إن من أولى ما يستخرجه الإنسان من تدبره لكتاب الله، هو: العمل به.
يقول د. خالد السبت: "فإن من الشطط أن تتوجه الأذهان عند الحديث عن التدبر إلى استخراج المعاني واللطائف والنكات الدقيقة التي لم نسبق إليها!! فإن ذلك لا يصلح إلا للعلماء، لكنَّ المؤمن يتدبر ليرقق قلبه، ويتعرف على مواطن العبر، ويعرض نفسه على ما ذكره الله في القرآن من أوصاف المؤمنين، ويحذر من الاتصاف بصفات غيرهم، إلى غير ذلك مما ينتفع به، ويمكن حصوله لكل من تدبر كتاب الله تعالى"، انتهى، " الخلاصة، خالد السبت ": (36).
وليحذر المرء من القول في كتاب الله بغير علم، فإن الله حين شرع التدبر للناس، لم يشرع لهم أن يتجرؤوا على كتابه، بل هذا أمر لهم بتحصيل الآلة المعينة على هذا التدبر.
وانظر مقالة: التدبُّر والتحرُّر من أَسْر اللطائف القرآنية!، للأستاذ محمد مصطفى عبد المجيد.
رابعاً:
أما عن حكم التدبر، فإن النصوص الواردة عن أهل العلم جاءت مطلقة مصرحة بالوجوب دون تفصيل، كما قال ابن حزم في رسائله: "تدبر القرآن فرض"، انتهى، "رسائل ابن حزم" (3/ 198).
وانظر نصوصًا أخرى في "تدبر القرآن"، عبد اللطيف التويجري، (59 - 61).
لكن ينبغي أن نفرق بين مراتب وجوب التدبر على كل إنسان، فكل إنسان يجب عليه أن يتدبر القرآن حسب وسعه وطاقته، وفهمه وقدراته وطاقاته الإدراكية.
قال "ابن تيمية": " معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل: فرض على الكفاية؛ فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب، والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما يجب على أعيانهم: فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، ومعرفتهم، وحاجتهم، وما أمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم، أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها، من علم التفصيل: ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي، والمحدث، والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك "، انتهى، "مجموع الفتاوى " (3/ 312).
فالحاصل أن تدبر القرآن منه:
1- ما هو واجب على المكلف.
وهو ما يتعلق بمعرفة الله، ومعرفة رسوله ودينه، مما لا يصح له إيمانه ودينه من دونه.
2- ومنه ما هو واجب على الكفاية.
وهو ما يختص أهل العلم به، مما يتعلق بفهم كتاب الله، ودينه وشرعه، على التفصيل، وإقامة ذلك في الأمة، علما، وعملا.
3- ومنه ما هو على الاستحباب.
وهو غالب ما يدعو الناس إليه في هذه الأيام؛ شريطة أن يستقيم على النظر الصحيح، والمنهج السديد في الفهم والتأويل؛ لا ما يشتط به الفهم والقول، وما يخرج على غير أصل متين.
انظر: "مقرر تدبر القرآن"، إشراف: العواجي، (99 - 110)، "تدبر القرآن" للتويجري: (59 - 63).
والله أعلم.