هل يصح أن يصلي القيام أربع ركعات متواليات يجلس بعد كل ركعتين للتشهد ثم يسلم بعد الرابعة؟
الحمد لله.
ثبت بالنص الصحيح الصريح أن السنة في قيام الليل، أن يكون ركعتين ركعتين، وثبت هذا من فعله وقوله صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ - وَهِيَ الَّتِي يَدْعُو النَّاسُ الْعَتَمَةَ - إِلَى الْفَجْرِ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ " رواه مسلم (736).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى رواه البخاري (990) ومسلم (749).
ورواه الترمذي (437) وقال عقبه: " وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ المُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ " انتهى.
وكون صلاة الليل مثنى مثنى هو مذهب جمهور العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد ، بل ذهب الإمام أحمد إلى وجوب ذلك ، وأنه تبطل الصلاة إذا قام إلى ثالثة في قيام الليل .
ينظر : "المغني" (2/443) ، "الإنصاف" (3/27) .
وخالف بعض أهل العلم ، فرأوا أن القيام بأربع ركعات متصلة عمل مسنون.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل:
أن مالكا، والشافعي، وابن أبي ليلى، وأبا يوسف، ومحمدا، قالوا في صلاة الليل: مثنى مثنى. والحجة لهم: ما قدمنا من تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل من كل ركعتين. وقوله: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
وذلك يقتضي الجلوس والتسليم في كل ركعتين.
وقال أبو حنيفة في صلاة الليل: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعا، وإن شئت ستا، وثمانيا، لا تسليم إلا في آخرهن.
وقال الثوري والحسن بن حيي: صلِّ بالليل ما شئت، بعد أن تقعد في كل ركعتين، وتسلم في آخرهن.
وحجة هؤلاء ظواهر الأحاديث عن عائشة، منها: حديثها هذا أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا... " انتهى من "الاستذكار" (5 / 237).
وحديث عائشة هو قولها رضي الله عنها: " مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا" رواه البخاري (1147)، ومسلم (738).
وقد أجاب جمهور العلماء عن الاستدلال بهذا الحديث بعدة أجوبة :
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قولها: ( يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها ) ، وفي رواية أخرى: ( يسلم من كل ركعتين ) وفي رواية: ( يصلي أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا ) ...
وهذا لبيان الجواز؛ وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين، وهو المشهور من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره بصلاة الليل : مثنى ، مثنى " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (6 / 20).
ومن قال بعدم سنيّة القيام بأربع متصلة ، أجابوا عن هذا الحديث بأجوبة؛ لعل أقواها وأوجهها، أن النبي صلى الله عيه وسلم كان يفصل بين الأربع والأربع بنوم، وليس المقصود أن الأربع صلاها بسلام واحد.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وذهب فقهاء الحجاز وبعض أهل العراق إلى أنه كان يسلم في كل ركعتين منها، على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
فمن ذهب إلى هذا تأول في قولها: ( يصلي أربعا ثم أربعا ) أي حسنهن وطولهن ورتل القرآن فيهن، وكذلك أيضا فعل في الأربع بعدهن حسنهن وطولهن، ثم الثلاث بعدهن لم يبلغ فيهن من الطول ذلك المبلغ ، لكنه سلم في كل ركعتين من صلاته تلك كلها، فهذا معنى: ( أربعا ثم أربعا ثم ثلاثا ) عند هؤلاء...
ثم قال ابن عبد البر: وجه رابع: وهو أنه كان ينام بعد الأربع، ثم ينام بعد الأربع، ثم يقوم فيوتر بثلاث ... " انتهى من "الاستذكار" (5 / 237 - 239).
وحديث عائشة هذا -الذي استدل به من ذهب من العلماء إلى القيام بأربع ركعات متصلة : لم يبين هل في هذه الأربع تشهدان أم تشهد واحد؟
والذي عليه القائلون بأفضلية الأربع من الحنفية ، أو من قال من الجمهور بجواز هذه الصفة مع خلافها للأفضل: أنه يشرع أن تكون بتشهدين.
قال القدوري الحنفي رحمه الله تعالى:
" إذا صلى أربعا فإنه : يأتي بالتكبيرة الثالثة، وهذه التكبيرة مساوية للتكبيرة التي يدخل بها...
وأما القعدة : فإنها واجبة في إحدى الروايتين.
وقد قالوا: إن من السنة إذا قام إلى ثالثة النفل أن يستفتح.
فأما السلام، والتشهد، والصلاة فليست بواجبة عندنا، وإنما هي مسنونة، فيأتي بها في القعدة الأولى والثانية في النفل " انتهى من "التجريد" (2 / 822).
وقال عثمان بن سعيد الكماخي رحمه الله تعالى:
" وقال أبو حنيفة، رحمه الله تعالى: صلاة الليل أي: التهجد وغيره من النوافل، إن شئت صلَّيْتَ ركعتين، وإن شئت أربعًا، أي: بجلستين... " انتهى من "المهيأ شرح الموطأ" (1 / 345).
وقال النووي الشافعي رحمه الله تعالى:
" وله أن يتشهد في كل ركعتين، كما في الفرائض الرباعية. فإن كان العدد وترا، فلا بد من التشهد في الأخيرة أيضا...
وأما الاقتصار على تشهد في آخر الصلاة: فلا خلاف في جوازه.
وأما التشهد في كل ركعتين، فذكره العراقيون وغيرهم، وقالوا: هو الأفضل، وإن جاز الاقتصار على تشهد. وذكر صاحب "التتمة"، و "التهذيب" وجماعة: أنه لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال. ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من الركعتين إن كان العدد شفعا، وإن كان وترا لم يجز بينهما أكثر من ركعة.
والمذهب: جواز الزيادة كما قدمناه.
وحكى صاحب "البيان" وجها: أنه لا يجلس إلا في آخر الصلاة، وهو شاذ منكر " انتهى من " روضة الطالبين" (1 / 336).
فالحاصل؛ أنه من اتبع القائلين بجواز القيام بأربع ركعات متصلة ، فله أن يجلس بعد الثانية ويتشهد عندهم.
لكن الصفة المحكمة الصريحة ، التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا : هي الصلاة مثنى مثنى، وحديث عائشة ليس واضح الدلالة كأحاديث الصلاة مثنى مثنى، فالأفضل والأحوط هو عدم الصلاة أربعا متصلة.
وراجع للفائدة جواب السؤال رقم : (106463)، ورقم : (45268).
والله أعلم.