الحمد لله.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " زيارة قبور المسلمين على وجهين : زيارة شرعية ، وزيارة بدعية .
فالزيارة الشرعية : أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت ؛ كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له؛ فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه ، قال الله تعالى في المنافقين: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ؛ فنهى نبيه عن الصلاة عليهم ، والقيام على قبورهم ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وماتوا وهو كافرون .
فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة ، وهي الكفر : دل ذلك على انتفاء هذا النهي عند انتفاء هذه العلة . ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يصلى عليه ، ويقام على قبره ؛ إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد ، لم يُخصوا بالنهي ، ولم يعلل ذلك بكفرهم ، ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين ، والقيام على قبورهم : من السنة المتواترة ؛ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته ، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول : ( سلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل ). رواه أبو داود وغيره.
وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ). والأحاديث في ذلك صحيحة ومعروفة .
فهذه الزيارة لقبور المؤمنين : مقصودها الدعاء لهم .
وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكفار ، كما ثبت في "صحيح مسلم" وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة ؛ أنه قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، ثم قال : ( استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ؛ فزوروا القبور ؛ فإنها تذكركم الآخرة ) .
فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت: تُشْرع ولو كان المقبور كافرًا ، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت ؛ فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين .
وأما الزيارة البدعية ؛ فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج ، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة ، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء ؛ فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا فعلها الصحابة ، لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عند غيره ، وهي من جنس الشرك ، وأسباب الشرك .
ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين ، من غير أن يقصد دعاءهم ، والدعاء عندهم ، مثل أن يتخذ قبورهم مساجد ؛ لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه ، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وقال: ( قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال: ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك ) .
فإذا كان هذا محرمًا ، وهو سبب لسخط الرب ولعنته ؛ فكيف بمن يقصد دعاء الميت ، والدعاء عنده ، وبه ، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات ، ونيل الطلبات وقضاء الحاجات ؟!
وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس ، قال ابن عباس: ( كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم) "، انتهى من "مجموع الفتاوى": (165 - 167)، "المنتخب من كتب شيخ الإسلام" (89).
ثانيًا :
قوله، رحمه الله : " فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه "، مقصوده أن يدعو الميت ويرجوه ، وهذا هو المعروف بالاستغاثة بالأموات، ودعائهم من دون الله جل جلاله؛ وهذا شرك بالله تعالى ، لأنه صرف عبادة لغير الله .
وأما الدعاء عند الميت ، ظنًا أن هذا أرجى لإجابة دعائه: فهو محرم ، لأنه ذريعة للشرك .
وأما الدعاء بالميت ، فمعناه : التوسل به "بذاته" أن يجيب الله الدعاء ، وهو "بدعة" على الصحيح .
وانظر الجواب رقم : (215648).
وينظر في بيان الاستغاثة، والأدلة على تحريمها : جواب السؤال رقم : (200862) .
ثالثًا :
التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو التوسل الذي عرف في كثير من المتأخرين فيقول: اللهم إني أسألك بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو : أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى لم ترد به السنة ؛ وقد قال فيه أبو حنيفة وأصحابه : إنه لا يجوز ، ونهوا عنه ، حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك .
قال في " تبيين الحقائق " للزيلعي الحنفي (6/31) : " قال أبو يوسف : أَكْرَهُ : بِحَقِّ فُلَانٍ ، وَبِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك " انتهى ، لأنه " لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ" ؛ كما قال الكاساني في " بدائع الصنائع " (5/126).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " لو قيل : يحمل قول القائل أسألك بنبيك محمد على أنه أراد : أني أسألك بإيماني به وبمحبته وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته ونحو ذلك ؟ وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع ؟
قيل : من أراد هذا المعنى : فهو مصيب في ذلك بلا نزاع ، وإذا حمل على هذا المعنى كلام من توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته من السلف - كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره - كان هذا حسنا ؛ وحينئذ : فلا يكون في المسألة نزاع.
ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ، ولا يريدون هذا المعنى ؛ فهؤلاء الذين أَنكر عليهم من أنكر.
وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به : التوسل بدعائه وشفاعته ، وهذا جائز بلا نزاع ؛ ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ " انتهى من " قاعدة جليلة " (ص119) .
رابعًا : التوسل بذوات المخلوقين .
وهذا من البدع المنكرة شرعًا ، والمنكرة عرفًا ولفظًا ، وفيه من التقدم بين يدي الله ، والتصرف بما لم يأذن به ، والمخالفة لمقاصد الداعي والمتوسل والمستشفع ، ما يخل بمقام الأدب في الدعاء .
قال شيخ الإسلام " وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ، ولا طلب له حاجة ، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا ، لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول.. " انتهى من " الفتاوى " (1/242).
وقال في موطن آخر " ليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا . وإن قال : السبب هو شفاعته ودعاؤه ، فهذا حق ، إذا كان قد شفع له ودعا له .
وإن لم يشفع له ولم يدع له ، لم يكن هناك سبب ".
وقد بسط الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة بسطا شافيا في كتابه المبارك " قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة " .
وانظر جواب الأسئلة رقم : (220340)، (979)، (23265).
والله أعلم .