معنى حديث؛ إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ.

21-01-2020

السؤال 319832

عرفت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: (إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تخلل الباقرة)، أنا الآن في كلية اللغة العربية، وأتدرب على التحدث بالفصحى، وهي ليست من سليقتي، وأجد أحيانا عناء في التدرب، ولكن غايتي أنني أريد أن اتحدث بها بفصاحة وبلاغة، فهل هذا يعتبر من التخلل المذكور في الحديث؟ وهل معنى الحديث أن الإنسان لا يحاول أن يصبح بليغا بالدربة، طالما إنها ليست من سليقته وطبيعته؟ وهل هذا التخلل ينطبق على اللغة العربية فقط أم على أي لغة أخرى؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

من المعلوم أن الوحي من كتاب وسنة جاء بلغة العرب؛ فلا يفهم إلا على وفق قوانين هذه اللغة؛ فلذا يكون التفقه في هذه اللغة والتخصص في فنونها، ثم تعليمها لعامة المسلمين، من أمور الدين، مأمور به المسلم شرعا؛ إما وجوبا أو استحبابا.

قال الشافعي رحمه الله تعالى:

" فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح، والتشهد، وغير ذلك.

وما ازداد من العلم باللسان، الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه: كان خيرا له " انتهى من"الرسالة" (ص 48 - 49).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" ومعلوم أن " تعلم العربية؛ وتعليم العربية " فرض على الكفاية؛ وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن. فنحن مأمورون، أمر إيجاب أو أمر استحباب: أن نحفظ القانون العربي؛ ونصلح الألسن المائلة عنه؛ فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة؛ والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا " انتهى من "مجموع الفتاوى" (32 / 252).

ثانيا:

وأما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ  رواه الترمذي (2853)، وأبو داود (5005)، وقال الترمذي: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ"، وصححه أبو حاتم الرازي في "العلل" (6 / 305 - 307)، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2 / 540).

فهذا الحديث - قطعا - لا يتناول أصل تعلم لغة العرب وقوانينها، وتعليمها للناس، لأن هذا أمر شرعي فيه حفظ الفهم الصحيح لمعاني الكتاب والسنة؛ والشرع لم يأت بالنهي عن المصالح الشرعية؛ وإنما ينهى عن المفاسد، أو ما يؤدي إليها.

ولذا نجد الشرع يحث على الفصاحة والبلاغة التي تحقق مصالح الشرع؛ ومن ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم لحسان رضي الله عنه في قوله الشعر دفاعا عن الإسلام.

عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، قَالَ: "مَرَّ عُمَرُ فِي المَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ فَقَالَ: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ ؟ قَالَ: نَعَمْ" رواه البخاري (3212)، ومسلم (2485).

فيحمل الحديث على التفاصح الذي لا يحقق مصلحة وإنما هو في ذاته مفسدة أو يؤدي إليها؛ وهو على أوجه:

الوجه الأول: أن تكون هذه البلاغة على وجه التكلف؛ كأن يتعمد الشخص الكلام بالفصيح من الكلام عند من لا يفقهه ولم يعتده ، كعامة الناس؛ فهذا التفاصح ربما يؤول بصاحبه إلى الرياء وطلب الشهرة، ولا يتحقق منه المقصود من الكلام ، وهو البيان والإفهام.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" من آفات اللسان التقعر في الكلام والتشدق ، حتى يتكلم الإنسان بملء شدقيه ، وحتى يتكلم عند العامة في غرائب اللغة العربية ، إما رياء ليقول الناس ما أعلمه باللغة العربية ، أو لغير ذلك، فالإنسان ينبغي أن يكون كلامه ككلام الناس الكلام الذي يفهم ، حتى وإن كان بالعامية ، مادام يخاطب العوام .

أما إذا كان يخاطب طلبة علم ، وفي مجلس التعلم : فهنا ينبغي أن يكون كلامه بما يقدر عليه من اللغة العربية " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (6 / 483).

الوجه الثاني: أن يتجاوز المتحدث المقصود من البيان والإفهام؛ فتدخل فصاحته وبلاغته في حد الثرثرة المنهي عنها؛ لأنها تشوش على الفهم، والكلام يُنسي بعضُه بعضا، فلا يحصل منها إلا ضياع الوقت، وكثرة اللغو والخطأ.

عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ  .

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ:  المُتَكَبِّرُونَ  رواه الترمذي (2018) وقال: " حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ...

وَالثَّرْثَارُ: هُوَ الكَثِيرُ الكَلَامِ، وَالمُتَشَدِّقُ الَّذِي يَتَطَاوَلُ عَلَى النَّاسِ فِي الكَلَامِ وَيَبْذُو عَلَيْهِمْ " انتهى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" والمقصود ببيان الكلام : حصول البيان لقلب المستمع، حتى يتبين له الشيءُ ، ويستبين...

فأما الأشياء المعلومة ، التي ليس في زيادة وصفها إلا كثرة كلام ، وتفيهق وتشدق وتكبر، والإفصاح بذكر الأشياء التي يستقبح ذكرها: فهذا مما ينهى عنه، كما جاء في الحديث: ( إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ ) " انتهى من "مجموع الفتاوى" (9 / 64 - 65).

الوجه الثالث: أن تكون هذه البلاغة على وجه يشوش على وجه الحق، كمن يعدم الحجة والدليل في حوار أو خصام، فيعتني بتحسين كلامه وتجميله بدلا عن الانصياع إلى الدليل الذي مع خصمه.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَضَى: أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ.

فَقَالَ وَلِيُّ المَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ  رواه البخاري (5758)، ومسلم (1681).

قال النووي رحمه الله تعالى:

" وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ ) من أجل سجعه، وفي الرواية الأخرى: ( سجع كسجع الأعراب )، فقال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين، أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله. والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان.

وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات ، وهو مشهور في الحديث، فليس من هذا ، لأنه لا يعارض به حكم الشرع ، ولا يتكلفه ؛ فلا نهي فيه، بل هو حسن " انتهى من"شرح صحيح مسلم" (11 / 178).

وهذه الأوجه من النهي عن تكلف البلاغة والفصاحة؛ كما قد يقع فيها المتكلم بالعربية، قد يقع فيها أيضا المتكلم بغير العربية، فلا تختص بلغة دون أخرى، والحكم متعلق بعلته وجودا وعدما.

والله أعلم.

شروح الأحاديث المناهي اللفظية
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب