أريد أن أسال عن حديث : (هلك كِسرى ، ثم لا يكون كِسرَى بعدَه ، وقيصرُ ليَهلِكَنَّ ، ثم لا يكون قيصرٌ بعدَه ، وليُقسَمَنَّ كنوزُهما في سبيلِ اللهِ)، (وفي مسلم مات كسرى)، مع العلم إنه كان بعد هرقل قياصرة كثر ، وإن قول الامام الشافعي "ان هرقل وضع رسالة الرسول في المسك، ودعا له الرسول بتثبيت ملكه" قول مرسل، ولم يحدد الرسول من الشام، فهل يجوز أن نقول إن ما قصده الرسول المقصود به هلاك قيصر على يد المسلمين حيث إن محمد الفاتح أهلك القيصر في ذلك الوقت ولم تقم قائمة لهرقل بيزنطي ؟
الحمد لله.
أولا:
هذا الحديث صحيح مما اتفق على روايته البخاري ومسلم؛ حيث روى البخاري (3027)، ومسلم (2918) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لاَ يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرٌ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرٌ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد حصل كما أخبر.
واستمرار القيصرية زمنا بعد هلاك القيصر الذي عاصر النبي صلى الله عليه وسلم: لا يشكل على الحديث؛ لأن القيصر المعروف للعرب في ذلك الزمن، وللصحابة رضوان الله عليهم الذين خوطبوا بهذا الحديث، إنما كان القيصر الذي حكم جهة الشام من قِبَل الروم؛ فبخروجه منها وهلاكه، انقطع ملكه في هذه البلاد ولم يرجع إليها أبدا.
قال البيهقي رحمه الله تعالى:
" قال الشافعي رحمه الله: كانت قريش تنتاب الشام انتيابا كثيرا، وكان كثير من معاشها منه، وتأتي العراق فيقال: لما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق، إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام، خلاف مَلِك الشام والعراق لأهل الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده )، فلم يكن بأرض العراق كسرى يثبت له أمر بعده، وقال: ( إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده )، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده، وأجابهم على ما قالوا له، وكان كما قال لهم صلى الله عليه وسلم، وقطع الله الأكاسَرة عن العراق وفارس، وقيصرَ ومن قام بالأمر بعده عن الشام... " انتهى من "دلائل النبوة" (4 / 394).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" قال الشافعي وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فعلمنا صلى الله عليه وسلم بانقطاع ملكهما في هذين الإقليمين، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، فأما كسرى فانقطع ملكه وزال بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق واضمحل، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قيصر فانهزم من الشام، ودخل أقاصي بلاده، فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت للمسلمين ولله الحمد، وأنفق المسلمون كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزات ظاهرة " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (18 / 43).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى:
" أما كسرى فقد قطع الله دابره، وانفقت كنوزه في سبيل الله وأورث الله المسلمين أرضه ودياره، والحمد لله رب العالمين.
وأما قيصر، هو صاحب ملك الروم، فقد كانت الشام بحياله، وكان بها مشتاه ومربعه، وبها بيت المقدس، وهو الموضع الذي لا يتم نسك النصارى إلا فيه، ولا يملك على الروم أحد من ملوكهم حتى يكون قد دخله سرا أو جهرا، وكانت الشام متجر قريش ومُمتارها... وقد أجلى عنها، واستبيحت خزائنه وأمواله التي كانت فيها، ولم يخلفه أحد من القياصرة بعده " انتهى من "أعلام الحديث" (2 / 1447).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وعلى كل تقدير؛ فالمراد من الحديث وقع لا محالة؛ لأنهما لم تبق مملكتها على الوجه الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قررته " انتهى من "فتح الباري" (6 / 624).
وهذا الحديث لم يتطرق إلى مسألة استمرار قوة الروم من عدمها، لكنه تم بيان هذا في حديث آخر، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم استمرار وجود قوة للروم.
قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ، عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ ". رواه مسلم (2898).
ثانيا:
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في القيصر الذي راسله : ( ثبت ملكه ) ؛ فقد قال البيهقي رحمه الله تعالى:
" قال الشافعي رحمه الله: ولما أُتي كسرى بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تمزق ملكه )، وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه في مسك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثبت ملكه )...
وأما ما حكى الشافعي من تمزيق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه ؛ فقد مضى إسناده في الباب قبله.
وأما ما قال في قيصر: ففيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن عون عن عمير بن إسحاق، قال: ( كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر فأما قيصر فوضعه، وأما كسرى فمزقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما هؤلاء فيمزقون ، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية ) " انتهى من "دلائل النبوة" (4 / 393 -394).
فالشافعي رحمه الله تعالى لم يسق إسناد الخبر، ومثل هذا لا يمكن تصحيحه إذا كان اسناده لا يعلم.
وقد استدل البيهقي لقول الشافعي بخبر عمير بن إسحاق، وعمير مختلف فيه، وفيه من وثقه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" عمير بن إسحاق شيخ ابن عون، وثّق، وقال ابن معين: لا يساوي حديثه شيئا " انتهى من "المغني" (2 / 492).
وعلى القول بتوثيقه فهذا اسناد مرسل لا تقوم به حجة.
وإذا قدر أن الخبر ثابت: فإن "ثبات" ملك قيصر، إنما كان في بلاد الروم، وليس في بلاد الشام التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بزوال ملكه فيها، وبهذا جمع الإمام الشافعي بين الخبرين الواردين في ذلك. قال:
" .. وكانَ كما قال لَهُم - صلى الله عليه وسلم -، وقَطَعَ اللَّهُ الأكاسِرَةَ عن العِراقِ وفارِسَ، وقَيصرَ ومَن قامَ بالأمرِ بَعدَه عن الشامِ.
وقالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في كِسرَى: "مُزِّق مُلكُه". فلَم يَبقَ لِلأكاسِرَةِ مُلكٌ.
وقالَ في قَيصرَ: "ثَبَتَ مُلكُه". فثَبَتَ له مُلكٌ ببِلادِ الرّومِ إلَى اليَومِ، وتنَحَّى مُلكُه عن الشّامِ، وكُلُّ هذا مُؤتَفِقٌ يُصدِّقُ بَعضُه بَعضًا." انتهى من "السنن الكبرى" للبيهقي (16/599).
وقال ابن كثير رحمه الله: " قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده .
قال: فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حين عظموا كتابه والله أعلم.
قلت: وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع. والله أعلم." انتهى من "البداية والنهاية" (6/491).
والله أعلم.