قال الله تعالى في كتابه وهو أصدق القائلين ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )، ما التفسير الصحيح في قوله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حيث حذف متعلقها ؟
الحمد لله.
أولًا :
معنى الآية الكريمة : " هذا أمر عام لكل الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ .
ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم.
وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً والسماء : هو كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، وزروع وغيرها رِزْقًا لَكُمْ به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون .
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه.
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو ذكر توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك.
وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك . ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه " انتهى من "تيسير الكريم الرحمن" (44).
وروى "الطبري" في "التفسير" (1/ 393) ، ورجحه ، عن ابن عباس أنه قال : " أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْدَادِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا رَبَّ لَكُمْ يَرْزُقُكُمْ غَيْرَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الَّذِيَ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ الرَّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ "، انتهى .
وعَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] أَيْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، ثُمَّ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا " .
وينظر للفائدة: "بدائع الفوائد"لابن القيم (4/ 1542 - 1547).
ثانيًا :
أما الإعراب : فإن قوله تعالى : " فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا : فَلَا: الفاء: للتسبُّب، لَا: ناهية، أي: تَسَبَّب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة: النهيُ عن اتخاذكم الأنداد. كذا عند السمين.
تَجْعَلُوا: فعل مضارع مجزوم بـ "لَا" وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. والواو: ضمير متصل في محل رفع فاعل. لِلَّهِ: اللام: حرف جر، ولفظ الجلالة اسم مجرور باللام، وعلامة جره الكسرة الظاهرة. والجار والمجرور في محل نصب مفعول به ثانٍ للفعل "لَا تَجْعَلُوا"، قالوا: وهو واجب التقديم. أَندَادًا: مفعول به أول منصوب وعلامة نصبه الفتحة.
* وجملة ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ) تعليليَّة، لا محل لها من الإعراب.
( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ): الواو: حالية. أَنْتُمْ: ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ. تَعْلَمُونَ: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو: في محل رفع فاعل. ومفعول ( تَعْلَمُونَ ) متروك؛ لأن المعنى: وأنتم من أهل العلم، أو هو محذوف اختصارًا، أي: وأنتم تعلمون بطلان ذلك.
* وجملة "تَعْلَمُونَ" في محل رفع خبر المبتدأ ( أَنْتُمْ ).
* وجملة "وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" في محل نصب على الحال. وصاحب الحال الضمير في ( فلا تجعلوا ) " انتهى من "التفصيل في إعراب آيات التنزيل" (1/ 81 - 82).
والله أعلم.