هل سياق سورة الكهف يدل على أن المؤمن دعا على صاحبه بهلاك جنتيه ؟
الحمد لله.
قال الله سبحانه وتعالى ، مخبرًا عن المؤمن الذي حاور صاحبه فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا الكهف/40-41 .
والظاهر من السياق أنه تخويفٌ ، خوف المؤمن به الكافر أن يصيبه عذاب من الله سبحانه وتعالى ، وليس دعاءً عليه.
فهو يقول له : لعل ربي أن يعاقبك لبغيك وعتوك ، فيرسل عذابًا من السماء على جنتك التي تفخر بها .
وهذا هو قول جمهور أهل العلم ، أن الآية تخويف من المؤمن لصاحبه، تحذير له من طغيانه ونسيانه شكر ربه ؛ أن تكون عاقبته زوال نعمته، وحرمانه من الجنة التي نسي شكر نعمة ربه فيها ، واغتر ما أوتيه من رزق الله.
وقد تحقق ما قاله المؤمن .
وقال بعض العلماء: إنه دعاءٌ لنفسه ، ودعاء على صاحبه ، قال الشيخ "السعدي" رحمه الله :
" وفيه: الدعاء بتلف مال ما كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه، خصوصًا إنْ فضلَ نفسه بسببه على المؤمنين، وفخر عليهم.
وفيها: أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار، وحق الجزاء، ووجد العاملون أجرهم فـ هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا، أي: عاقبة ومآلا "، انتهى ، "تيسير الكريم الرحمن" (477).
وقال العلامة ابن عاشور، رحمه الله: " وَ (عَسَى) لِلرَّجَاءِ ، وَهُوَ طَلَبُ الْأَمْرِ الْقَرِيبِ الْحُصُولِ .
وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ الدُّعَاءَ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى صَاحِبِهِ"، انتهى من "التحرير والتنوير" (15/ 324).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله تعالى: (فَعَسَى رَبِّي) : هذه الجملة هي جواب الشرط. وهل هي للترجي أم للتوقع؟
الجواب: فيها احتمالان:
الأول: أنها للترجي ، وأن هذا دعا أن يؤتيه الله خيراً من جنته ، وأن ينْزل عليها حسباناً من السماء؛ لأنه احتقره واستذله ، فدعا عليه بمثل ما فعل به من الظلم، ولا حرج على الإنسان أن يَدعوَ على ظالمه بمثل ما ظلمه. ويحتمل أنه دعا عليه من أجل أن يعرف هذا المفتخر ربه ، ويدعَ الإعجاب بالمال ، وهذا من مصلحته؛ فكأنه دعا أن يؤتيه الله ما يستأثر به عليه، وأن يتلف هذه الجنة حتى يعرف هذا الذي افتخر بجنته ، وعزة نفره : أن الأمر أمر الله، فكأنه دعا عليه بما يضره، لمصلحة هي أعظم. فكون الإنسان يعرف نفسه ، ويرجع إلى ربه خير له من أن يفخر بماله ويعتز به. هذا إذا جعلنا عسى للترجي.
الثاني: أن تكون عسى للتوقع، والمعنى: أنك إن كنت ترى هذا، فإنه يُتَوقع أن الله تعالى يُزيل عني ما عبتني به، ويزيل عنك ما تفتخر به.
وأياً كان؛ فالأمر وقع، إما استجابة لدعائه، وإما تحقيقاً لتوقعه.
(وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) والمراد بالحسبان هنا ما يدمرها من صواعق أو غيرها.
وقوله: (مِنَ السَّمَاءِ) : خصَّ السماء لأن ما جاء من الأرض قد يدافع، يعني لو نفرض أنه جاءت أمطار وسيول جارفة، أو نيران محرقة تسعى وتحرق ما أمامها، يمكن أن تُدافع، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه أو يتعذر.
(فَتُصْبِحَ صَعِيداً) أي تصبح لا نبات فيها.
(زَلَقاً) يعني قد غمرتها المياه." انتهى من "تفسير سورة الكهف" (73-74).
وانظر : "المحرر الوجيز" لابن عطية: (3/ 518) ، "تفسير الرازي" (21/ 465)، "تفسير ابن كثير" (5/ 185).
والله أعلم.