قرأت مقولة لشمس الدين التبريزي، وهي: " إننا نعتقد أن الله يرانا من فوق، ولكن يرانا من الداخل"، ما معنى "ولكن يرانا من الداخل"؟ وهل هذه الجملة لها علاقة بعقيدة الوجود؟
الحمد لله.
أولا:
المشهور أن هذا التبريزي شيخ لجلال الدين الرومي، وهو صوفي مشهور على عقيدة ابن العربي في القول بوحدة الوجود، وقد سبق الاشارة إلى هذا في جواب السؤال رقم: (252826).
ثانيا:
هذه المقولة رغم شهرة تداولها، إلا أننا لا نعلم مدى صحة نسبة هذه المقولة لهذا التبريزي، ولم نقف على مصدر لهذه المقولة وسياقها، فلذا لا نستطيع الجزم بمقصد قائلها:
فإن كان قصد القائل بلفظة " لكن " إبطال ما سبق من الكلام بأن الله تعالى فوق خلقه، عال عليهم، وأنه - سبحانه – مع علوه على عرشه، بائنا عن خلقه، غير مختلط بهم، ولا حال في شيء من مخلوقات = مع ذلك؛ فهو قد أحاط بهم علما؛ يسمعهم، ويراهم، وهو بكل شيء محيط سبحانه؛ إذا أراد القائل إبطال ذلك الاعتقاد الأصيل في حق الله سبحانه وتعالى، ليثبت فقط ما قاله بعد ذلك: وهي أن الله يرانا فقط من الداخل:
فهذا الإبطال، هو الباطل بعينه. وهذا عين ما يدندن حوله أهل الضلال من الوجودية، والقائلين بالحلول والاتحاد.
وينظر ما سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (147639).
وأما إن كان قصدة بـ " لكن " مجرد زيادة تفسير، وعدم ابطال للجملة السابقة.
فهذه المقولة، بمجردها، وبالمعنى الثاني الذي لا ينفي علو الله تعالى على عرشه، وبينوته من خلقه: لا يلزم منه أن يكون صاحبه يعتقد حلول الله تعالى في مخلوقاته، بل قصده أن الله تعالى كما هو مطلع على ظاهر المخلوقات، هو مطلع أيضا على بواطنهم، ويعلم ما تُكِّن نفوسهم.
قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ النمل/74 – 75.
وقال الله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ غافر/19.
والقصد منها أن يستشعر العبد مراقبة الله لخواطره ونواياه وأعمال قلبه، كما يستشعر مراقبة الله تعالى لأفعال جوارحه. وبيان أن حسابه تعالى لخلقه ليس مبينا على ما ظهر من أعمالهم، فحسب؛ بل فوق ذلك، وقبل ذلك: ما تكنه صدورهم، وتخفيه سرائرهم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ رواه مسلم (2564).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" ومن منازل: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) منزلة المراقبة.
قال الله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ). وقال تعالى: ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا )، وقال تعالى: ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ).
وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان؟ فقال له: ( أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ).
المراقبة: دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه. فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله. وهو مطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة...
والمراقبة هي التعبد باسمه – تعالى - الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة " انتهى. "مدارج السالكين" (2 / 1489 - 1493).
فالحاصل؛ أن هذا القول المنسوب للتبريزي، قول محتمل يحتمل حقا وباطلا، وسبيل المسلم هو أن يعرض عن أهل البدع وأقوالهم ومصنفاتهم صيانه لدينه.
قال البغوي رحمه الله تعالى:
" قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة، وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته ، وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا ...
وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم " انتهى . "شرح السنة" (1 / 224 – 227).
وقال ابن مفلح رحمه الله تعالى:
" وذكر الشيخ موفق الدين رحمه الله في المنع من النظر في كتب المبتدعة، قال: كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنظر في كتبهم والاستماع لكلامهم " انتهى. "الآداب الشرعية" (1 / 251).
والله أعلم.