سؤالي عن نصيب البنتين في الميراث، يقول الله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)، وجدت في كتب الفقه أن العلماء قد نصوا على أن نصيب البنتين ثلثا التركة، اعتمادا على حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه ما نصه: (فقال أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك)، بعد بحثي في صحة الحديث وجدت طرقه كلها تعود إلى عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد تكلم في ضبطه كثير من أهل العلم المتخصصين في الجراحة والتعديل. فسؤالي هو: لماذا تم تقديم حديث لا يرقى لأن يكون حديثا صحيحا فضلا عن أن يكون متواترا على كلام الله عز وجل؟ فنص القرآن يوجب الثلثين لما كان فوق البنتين صراحة، ولا يحتمل ذلك معنى آخر لغة إلا على اعتبار أن فيها أسلوب إيجاز، وحسب ما أعلم فإن كلام الله تعالى يؤخذ على ظاهره ما لم تأت قرينة صريحة تصرفه إلى معنى آخر بشرط أن تحتمله الآية لغة.
الحمد لله.
فرض البنتين الثلثان، وهذا ثابت بالقرآن والسنة والإجماع والقياس.
لكن دلالة القرآن على ذلك ليست صريحة بحيث يفهمها كل أحد، وإنما تحتاج إلى شيء من الفقه والاستنباط. قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ النساء/11.
فنص على أن للبنت: النصف، ولا تأخذه إلا بهذا الشرط: أن تكون واحدة.
ونص على أنها مع الذَّكر: يأخذ ضعفها، فلو كانت مع ذكر أخذت الثلث، وأخذ هو الثلثين، فمن باب أولى أنها إذا كانت مع أنثى أنها لا تنقص عن الثلث، فلا تأخذ الربع كما روي عن ابن عباس.
وعليه: فالبنتان معا يأخذان الثلثين.
وقياس الأولى هذا هو القياس في معنى النص، ويأخذ به حتى منكرو القياس.
ثم نص على ما زاد على الاثنتين فقال: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ليبين أنهن مهما كثر عددهن: لا يزدن على الثلثين.
فهذا وجه دلالة القرآن على أن البنتين لهما الثلثان.
ووجه آخر أن (فوق) صلة، أي زائدة، كقوله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق) أي اضربوا الأعناق، فالمعنى: إن كن اثنتين، فلهما ثلثا ما ترك.
ووجه ثالث يأتي في كلام شيخ الإسلام، أنه إذا انتفى عنهما النصف، وجميعُ المال؛ لم يبق إلا الثلثان.
وأما السنة فحديث سعد: روى أحمد (14798)، وأبو داود (2892)، والترمذي (2092)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ فَنَزَلَتْ: آيَةُ المِيرَاثِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ ".
قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ.
وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي".
ورواه الحاكم في مستدركه (7954) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ حسن الحديث، وليس حديثه مخالفا للقرآن، كما في السؤال، فليس في القرآن أن البنتين لا يأخذان الثلثين، أو أن لهما كذا من الميراث، غير ما ذكر في الحديث، حتى يقال: إن ذلك تقديم للحدث على نص القرآن؛ بل هو تفسير للآية، وموافق لدلالتها كما تقدم.
وأقصى ما يقال: إن القرآن سكت عن بيان نصيب الاثنتين، فلا يكون الحديث مخالفا، بل مبينا ما سكت عنه، مع أننا نقول: إن القرآن قد دل على أن نصيبهما الثلثان، كما سبق بيان وجهه.
وأما الإجماع فقد حكاه ابن المنذر وابن قدامة وابن القطان وابن تيمية وغيرهم. وينظر: "الإجماع" لابن المنذر، 69، "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان (2/ 89).
وأما القياس: فإن الله نص على أن الأختين لهما الثلثان، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ النساء/176.
فإذا أخذت الأختان الثلثين نصا، فالبنتان مثلهما، وأولى، لأنها أقرب إلى الميت.
وأيضا: فكل من ترث الواحدة منهن النصف، فللاثنتين منهن الثلثان، كالأخوات من الأبوين، والأخوات من الأب.
وكل عدد يختلف فرض واحدهم وجماعتهم، فللاثنين منهم مثل فرض الجماعة، كولد الأم، والأخوات من الأبوين، أو من الأب. فالجمع الوارد في آيات الفرائض يشمل الاثنين فصاعدا كقوله: (يوصيكم الله في أولادكم) وغيره كما سيأتي.
فهذه ثلاثة أوجه من القياس الصحيح.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (6/ 271): "أجمع أهل العلم على أن فرض الابنتين الثلثان، إلا رواية شاذة عن ابن عباس، أن فرضهما النصف؛ لقول الله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [النساء: 11]؛ فمفهومه أن ما دون الثلاث ليس لهما الثلثان. والصحيح قول الجماعة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخي سعد بن الربيع: (أعط ابنتي سعد الثلثين).
وقال الله تعالى في الأخوات: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [النساء: 176]، وهذا تنبيه على أن للبنتين الثلثين؛ لأنهما أقرب، ولأن كل من يرث الواحد منهم النصف، فللاثنتين منهم الثلثان، كالأخوات من الأبوين، والأخوات من الأب، وكل عدد يختلف فرض واحدهم وجماعتهم، فللاثنين منهم مثل فرض الجماعة، كولد الأم، والأخوات من الأبوين، أو من الأب.
فأما الثلاث من البنات فما زاد، فلا خلاف في أن فرضهن الثلثان، وأنه ثابت بقول الله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [النساء: 11].
واختلف فيما ثبت به فرض الابنتين، فقيل: ثبت بهذه الآية، والتقدير: فإن كن نساء اثنتين، وفوق: صلة، كقوله: فاضربوا فوق الأعناق [الأنفال: 12]؛ أي: اضربوا الأعناق.
وقد دل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت هذه الآية، أرسل إلى أخي سعد بن الربيع: (أعط ابنتي سعد الثلثين)، وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير للآية، وبيان لمعناها، واللفظ إذا فسر، كان الحكم ثابتا بالمفسَّر، لا بالتفسير.
ويدل على ذلك أيضا أن سبب نزول الآية قصة بنتي سعد بن الربيع، وسؤال أمهما عن شأنهما في ميراث أبيهما.
وقيل: بل ثبت بهذه السنة الثابتة.
وقيل: بل ثبت بالتنبيه الذي ذكرناه.
وقيل: بل ثبت بالإجماع. وقيل: بالقياس.
وفي الجملة: فهذا حكم قد أُجمع عليه، وتواردت عليه الأدلة التي ذكرناها كلها، فلا يضرنا أيها أثبته." انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما "ميراث البنتين" فقد قال تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف)؛ فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر: الثلث، ولها وحدها النصف، ولِما فوق اثنتين: الثلثان. بقيت البنت إذا كان لها مع الذكر الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى.
ولأنه قال: (وإن كانت واحدة فلها النصف) فقيد النصف بكونها واحدة؛ فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فإن كن نساء) ذكر ضمير (كن) و (ونساء)، وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فوق اثنتين) لأنه قد عُرف حكم الثنتين؛ وعرف حكم الواحدة، وإذا كانت واحدة، فلها النصف، ولما فوق الثنتين الثلثان: امتنع أن يكون للبنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان؛ فكيف الاثنتين، ولا يكفيها النصف لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، فلا يكون لها إذا لم تكن واحدة.
وهذه الدلالة تظهر من قراءة النصب وإن كانت واحدة فإن هذا خبر كان تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها: (فلها النصف)؛ فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف وانتفى الجميع، فلم يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
وأيضا فإن الله لما قال في الأخوات: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك)، كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين.
وأيضا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين وأمهما الثمن والعم ما بقي". وهذا إجماع لا يصح فيه خلاف عن ابن عباس...
ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرّق فيه بين الواحد والعدد، وسوّى فيه بين مراتب العدد الاثنين والثلاثة، وقد صرح بذلك في قوله: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة) إلى قوله: (فهم شركاء في الثلث) فقوله: (كانوا) ضمير جمع، وقوله: (أكثر من ذلك) أي من أخ وأخت، ثم قال: (فهم شركاء في الثلث)، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله: (فهم)، والمظهر وهو قوله (شركاء)، فدل على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد مطلقا: الاثنين فصاعدا؛ لقوله: (يوصيكم الله في أولادكم)، وقوله: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) وقوله: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء)." انتهى من "مجموع الفتاوى"(21/ 349-452).
فتبين بهذا أن ميراث البنتين للثلثين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.
والله أعلم.