سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تكلفوا للضيف). أولا: ما معنى هذا الحديث؟ ثانيا: ولو أن معناه إن المقصود أن لا تفعل ما لا تقدر عليه، أو يشق عليك، فهل ذلك داخل فى البذل من المال ما لا يطيق، وأيضا بذل الجهد البدنى بما يشق عليه و يتعبه؟ نجد بعض الناس إذا جاءه بعض الضيوف يصنع طعاما من بعد صلاة الفجر، إلى العصر أو الليل، فإذا جاء أخر اليوم كان شبه الجثة الهامدة من شدة التعب، هذا ما أقصده من الجهد البدنى الذى يشق على الإنسان أو ما شابهه. ثالثا: هل النهى هنا للتحريم أم للكراهة، وسؤالى ليس من باب التعنت، وإنما لاختلاف درجات الإنكار، فالمكروه مثلا مع وجود تحريمات أشد فالأولى النظر للتحريم الأشد، وتأجيل إنكار المكروه.
الحمد لله.
روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (13/126) بإسناده عن سلمان: " أنه أضافه قوم فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لاَ تكَلَّفُوا لِلضَّيْفِ ؛ لتكلفنا لكم".
ورواه الإمام أحمد في "المسند" (39/136) بلفظ: " لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا، أَوْ لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا، أَنْ يَتَكَلَّفَ أَحَدُنَا لِصَاحِبِهِ ؛ لَتَكَلَّفْنَا لَكَ".
وقال محققو المسند: "حديث محتمل للتحسين بمجموع طرقه".
وقال الشيخ الألباني: " الحديث قوي بمجموع طرقه، ولاسيما ويشهد له عموم حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ ) أخرجه البخاري" انتهى من"السلسلة الصحيحة" (5/570).
ورواه الحاكم في "المستدرك" (4/123)، بإسناده عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ:
" دَخَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي عَلَى سَلْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خُبْزًا وَمِلْحًا ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنِ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْتُ لَكُمْ.
فَقَالَ صَاحِبِي: لَوْ كَانَ فِي مِلْحِنَا سَعْتَرٌ ؟!
فَبَعَثَ بِمِطْهَرَتِهِ إِلَى الْبَقَّالِ ، فَرَهَنَهَا ، فَجَاءَ بِسَعْتَرٍ ، فَأَلْقَاهُ فِيهِ .
فَلَمَّا أَكَلْنَا قَالَ صَاحِبِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَعَنَا بِمَا رَزَقَنَا.
فَقَالَ سَلْمَانُ: لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رُزِقْتُ ، لَمْ تَكُنْ مِطْهَرَتِي مَرْهُونَةً عِنْدَ الْبَقَّالِ!" .
وقال الحاكم: " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ"، ووافقه الذهبي.
وهذا الرواية تشرح وتبيّن معنى التكلف المنهي عنه، وحاصل ذلك؛ أن إكرام الضيف مأمور به شرعا، كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ رواه البخاري(6018)، ومسلم (47).
والأوامر الشرعية مكلف بها المسلم بقيد الوسع والاستطاعة.
كما في قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا البقرة/286.
فالمسلم لا يتكلف للضيف إلا بما يستطيعه، فمن كان فقيرا ، فلا يقترض لكي يأتي لضيفه بطعام الأغنياء وما هو فوق طاقته من المآكل.
والتكلف للضيف مكروه من باب الأدب ، لكي لا يشق المسلم على نفسه ، وحتى لا يتأذى الضيف .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وقد روى عن السلف كراهة التكلف للضيف لما ذكرناه - والله أعلم - لما عليه فيه مشقة، فأما بما قدر عليه : فمن السنن، قد ذبح إبراهيم لأضيافه عجلا " انتهى من"إكمال المعلم" (6/ 511).
وقال النووي رحمه الله تعالى:
" وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف ، وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة ، لأن ذلك يمنعه من الإخلاص ، وكمال السرور بالضيف، وربما ظهر عليه شيء من ذلك فيتأذى به الضيف ، وقد يُحضِر شيئا يعرف الضيف من حاله أنه يشق عليه ، وأنه يتكلفه له ، فيتأذى الضيف لشفقته عليه، وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)؛ لأن أكمل إكرامه إراحة خاطره وإظهار السرور به " انتهى من"شرح صحيح مسلم" (13/213).
وعلى ذلك ؛ فمن كان غنيا مستطيعا ، شرع له أن يجتهد في إكرام ضيفه ، بما في وسعه وقدرته ولو كان كثيرا ، وهذا إبراهيم عليه السلام قد تكلف لضيفه بعجل سمين.
قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ الذاريات/24– 27.
وقال الله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ هود/69.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه [القرى هو ما يقدم للضيف] ، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جِدَة، ولا يتكلف ما يضر به " انتهى من"تفسير القرطبي" (11/159).
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" التكلف للضيف، لمن قدر على ذلك: من سنن المرسلين، وآداب النبيين، ألا ترى أن إبراهيم الخليل ذبح لضيفه عجلا سمينًا " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (9/311).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ لَيْلَةٍ - فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا ، فَقَامُوا مَعَهُ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ ، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا..." رواه مسلم (2038).
وبوب البخاري في "الصحيح" بابا: " بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ وَالتَّكَلُّفِ لِلضَّيْفِ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وترجم المصنف في الأدب باب: " صنع الطعام والتكلف للضيف "، وأشار بذلك إلى حديث يروى عن سلمان في النهي عن التكلف للضيف ، أخرجه أحمد وغيره بسند لين.
والجمع بينهما: أنه يقرب لضيفه ما عنده، ولا يتكلف ما ليس عنده، فإن لم يكن عنده شيء، فيسوغ حينئذ التكلف بالطبخ ونحوه" انتهى من"فتح الباري" (4/211).
وينبغي لمن اجتهد في إكرام ضيفه، ألا يتكلف بما فيه إسراف، كتقديم الطعام الكثير، الذي يرمى بعد ذلك ما بقي منه، وإن كان ذا مال ويقدر على ذلك، أو يتكلف بنية التفاخر والتظاهر بالكرم والجود، لما فيه من فساد النية وضياع الأجر.
أما التكلف بالعمل ، فيقال فيه مثل ما قيل في الطعام ، فإن كان قادرا على العمل، فلا بأس أن يتكلف بالعمل ، فإن الصحابي ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم شاةً ، كما في الحديث المتقدم ، وإبراهيم عليه السلام ذبح عجلا وشواه ، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى عمل كثير وتعب .
أما إذا كان لا يقدر على العمل، فلا يحمل نفسه ما لا يطيق فيضر نفسه، أو يشق عليها مشقة شديدة يبقى أثرها عليه أيامًا.
والله أعلم.