يقول ربنا عزوجل: (إِذ يُريكَهُمُ اللَّهُ في مَنامِكَ قَليلًا وَلَو أَراكَهُم كَثيرًا لَفَشِلتُم وَلَتَنازَعتُم فِي الأَمرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدورِ) الآية 43 من سورة الأنفال، فهل هذا يعني أن الله عزوجل أرى النبيﷺ عدد المشركين بخلاف الواقع والحقيقة، ثم النبي ﷺ يخبر الصحابة رضي الله عنهم بشئ هو بخلاف الواقع والحقيقة، فكيف يقع هذا، والله عزوجل منزه عن كل نقص وعيب، والرسول صلى الله عليه معصوم لا يقول إلا الحق والحقيقة؟
الحمد لله.
أكثر العلماء وجمهورهم أن قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ الأنفال/43؛ رؤيا منامية.
والمعنى: "يريكهم في نومك قليلًا فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوهم.
ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك، فجبنوا وخافوا، ولم يقدروا على حرب القوم، ولتنازعوا في ذلك، ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا، إنه عليم بما تخفيه الصدور، لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب".
"وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا)الأنفال/43 أي في عينك التي تنام بها، فصير المنام هو العين، كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلًا".
وهذا القول الثاني، قال ابن كثير: "عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا قَالَ: بِعَيْنِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ غَرِيبٌ، وَقَدْ صُرِّحَ بِالْمَنَامِ هَاهُنَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عليه." انتهى. انظر: "تفسير الطبري"(11/ 208 - 209)، "تفسير ابن كثير"(4/ 69).
وهذه الرؤيا من فعل الله تعالى المبني على حكمته، وقد قال ابن عاشور: "وكان النبيء صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا منام جيش المشركين قليلًا، أي: قليل العدد، وأخبر برؤياه المسلمين، فتشجعوا للقاء المشركين، وحملوها على ظاهرها، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيب جيش المشركين.
فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر، وكانت تلك الرؤيا منة من الله على رسوله والمؤمنين، وكانت قلة العدد في الرؤيا: رمزًا وكناية عن وهن أمر المشركين، لا عن قلة عددهم.
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم، دون الوحي، لأن صور المرائي المنامية تكون رموزًا لمعان ؛ فلا تعد صورتها الظاهرية خُلْفًا، بخلاف الوحي بالكلام.
وقد حكاها النبيء صلى الله عليه وسلم للمسلمين، فأخذوها على ظاهرها، لعلمهم أن رؤيا النبيء وحي، وقد يكون النبيء قد أطلعه الله على تعبيرها الصائب، وقد يكون صرفه عن ذلك، فظن كالمسلمين ظاهرها، وكل ذلك للحكمة.
فرؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم لم تخطئ، ولكنها أوهمتهم قلة العدد، لأن ذلك مرغوبهم، والمقصود منه حاصل، وهو تحقق النصر، ولو أُخبروا بعدد المشركين كما هو، لجبنوا عن اللقاء، فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة.
ورؤيا النبيء لا تخطئ، ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج... وهذا هو الغالب، وخاصة قبل ابتداء نزول الملك بالوحي، وقد تكون رؤيا النبيء صلى الله عليه وسلم رمزية وكناية." انتهى من "التحرير والتنوير" (10/ 22 - 23).
وقال المعلمي اليماني: "وقال الله تعالى لنبيه محمَّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ... [الأنفال: 43].
فرآهم قليلًا، وليسوا في الواقع قليلًا، ولكن ذلك كناية عن الذلَّة، وأنهم سيُغلبون." انتهى من "آثار المعلمي" (2/ 217).
والحاصل:
أن هذه الرؤيا كانت منامية، كما هو صريح لفظ القرآن، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه في منامه، ولا مدخل لمثل ذلك بالكذب، ولا تعلق له بوجه ؛ فمن رأى رؤيا، وأخبر بما رآه، فقد صدق، وأما تحقق هذه الرؤيا: فذلك أمر آخر.
وقد ذكر أهل العلم أن هذه القلة في الرؤيا: كانت كناية عن ذلتهم، وضعفهم، وهذا مما تقوت به قلوب المؤمنين، حتى أقدموا عليهم، ونازلوهم، وهزموهم.
والله أعلم.