الحمد لله.
أولا:
الاعتقاد بأن الدنيا قليلة الشأن ، ويُذَمُّ الاعتناء بها، وأن الخير كل الخير في تعلم الدين والعمل به، هذا حق، قد جاء في الأدلة الشرعية ما يثبته .
كما في قوله تعالى:
( قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) النساء (77).
وعن أَبي هُرَيْرَةَ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ ) رواه الترمذي (2322)، وقال: " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ".
"(وما والاه) أي : ما يحبه الله من الدنيا ، وهو العمل الصالح " انتهى من "فيض القدير" (2/414) .
قال الصنعاني رحمه الله :
"(الدنيا ملعونة) المراد أنها بعيدة من الله ، مطرودة عن إكرامه لها ، وتعظيمه ، ونظره إليها " انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (3/438) .
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي: مبعدة عن الله، لأنها تشغل عنه، إلا العلم النافع الدال على الله، وعلى معرفته، وطلب قربه ورضاه، وذكر الله وما والاه مما يقرب من الله، فهذا هو المقصود من الدنيا، فإن الله إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه، ولازم ذلك دوام ذكره، كما قال ابن مسعود: تقوى الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (384776)
ثانيا:
شرع الله إقام الصلاة لذكره، وكذلك الحج والطواف. وأفضل أهل العبادات، من كان أكثر ذكرا لله تعالى في عبادته. وكل ما كان عونا على طاعة الله جل جلاله، وذكره، وإقامة شعائره: فليس من هذه الدنيا الملعونة، بل هو من الخير الذي يؤتيه الله من يشاء من عباده، يرتفقون به، ويستعينون به على طاعته.
روى الإمام أحمد في "مسنده" (21906)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: ( إِنَّ اللهَ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ ) .
ففي هذا دليل على أن أن المال إذا استخدمه صاحبه في طاعة الله تعالى، وإقامة ذكره: فإنه يكون محمودا ، لا مذموما .
وبالارتفاق بهذا المال في المعايش، والاستعانة به على طاعة الله، تحصل عمارة هذه الأرض، وتتحقق الحكمة الشرعية التي أحبها الله من خلقه، بل خلقهم لأجلها. قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (2 / 199).
روى أحمد (17798) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله قال : (نعم المال الصالح للمرء الصالح) . صححه الألباني في "غاية المرام" (454) وقال الأرناؤوط في تحقيق المسند : إسناده صحيح على شرط مسلم .
وروى البخاري (6427) ومسلم (2469) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِى حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ) .
قال الملا القاري :
"(فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ) أَيْ: مَا يُعَانُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُدْفَعُ بِهِ ضَرُورَاتُ الْمُؤْنَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَعُونَةِ الْوَصْفُ مُبَالَغَةً أَيْ: فَنِعْمَ الْمُعِينُ عَلَى الدِّينِ. (هُوَ) أَيِ: الْمَالُ، وَنَظِيرُ مَا وَرَدَ: نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" انتهى من "مرقاة المفاتيح" (8/3232) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ هَذَا الْكِتَابَ، فَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَتَصَدَّقَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ ) رواه البخاري (1409) ومسلم (815).
ثالثا:
اللعن ليس من خلق المسلم، خاصة إذا كان لمال معين فهو منهي عنه. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهيا صريحا عن أن يلعن الرجل ماله، أو يدعو عليه، وحذر العباد من ذلك؛ أن يدعو بهذا "الشر"، فيستجيب الله لهم، فيندموا!!
روى مسلم في "صحيحه" (3009)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
( سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط. وهو يطلب المجدي بن عمرو الجهني. وكان الناضح يعقبه منا الخمسة والستة والسبعة. فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له. فأناخه فركبه. ثم بعثه فتلدن عليه بعض التلدن. فقال له: شأ. لعنك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من هذا اللاعن بعيره؟ " قال: أنا. يا رسول الله! قال "انزل عنه. فلا تصحبنا بملعون. لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم ).
قال ابن رسلان، رحمه الله، في "شرح سنن أبي داود" (7/ 355): (ولا تدعوا على أموالكم) باللعنة ولا بغيرها، وهذا النهي ورد حين دعا الرجل على بعيره (5) (لا توافقوا) أي: لئلا تصادفوا ساعة الإجابة، فإن لله ساعات يستجاب فيها الدعاء، أخفاها الله عن عباده
وقال ابن رجب، رحمه الله، كما في "جامع العلوم والحكم" (1/ 373): " فهذا كله يدلُّ على أن دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب" انتهى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (274272)
والذي ينبغي للمسلم أن يفعله إذا رأى أحدا فتنة المال وشغله عن طاعة الله تعالى : أن يتوجه إليه بالنصيحة ، إن غلب على ظنه أنه يقبل منه .
وإذا ما خشي على نفسه أن يفتن بالمال ؛ أن يستعيذ بالله من الفتن ، وأن يسأل الله تعالى أن يجعل المال عونا له على طاعته سبحانه ، وأن يجتهد في ذلك .
قال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله، في "شرح رياض الصالحين" (6/ 51): "المال الذي يتعاكس عليك السيارة أو الشغل في البيت أو غير ذلك لا تدع عليه لكن قل اللهم يسر الأمر اللهم سهل حتى يحصل التسهيل والتيسير". انتهى.
ولا حرج عليه أن يتقلل من المال ، بمعنى: ألا يبالغ في طلبه من مظانه، طلبا حثيثا، بحيث ينشغل به عن طاعته؛ فإن بورك له في صفقة يمينه، وأتاه المال، ميراثا، أو تجارة، أو ما كان من رزق بالله له فيه؛ فليس من الشرع، ولا من العقل أن يرفض هذا المال، ويدعه، ويرغب عنه؛ بل يطيع الله تعالى فيه، فيصل منه رحمه، ويعطي الفقير والمسكين وذا الحاجة، ويجعل عونا له على طاعة الله؛ فإن مثل ذلك مظنة للبركة، وأن يجعل الله الله عونا له على الخير، وأن يكون من حسنة الدنيا وبركتها المحمودة المحبوبة.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (219763)
والله أعلم.