الحمد لله.
أولا :
الإكثار من اللعن من الصفات المذمومة التي لا ينبغي للمؤمن أن يتصف بها ، وقد جاءت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين ذلك ، سبق ذكر بعضها في السؤال رقم (45148) ، (83390) .
وقد ثبت النهي عن لعن ما لا يستحق اللعنة ، وإن لم يكن مكلفا ، أو لم يكن من شأنه أن يعقل اللعن ، أو يتأذى به ، من الحيوانات.
روى مسلم (2595) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ ، فَضَجِرَتْ ، فَلَعَنَتْهَا ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا ، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ) قَالَ عِمْرَانُ : فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ .
وروى مسلم أيضا (2596) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضَايَقَ بِهِمْ الْجَبَلُ ، فَقَالَتْ : حَلْ ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ) .
(حَلْ) كلمة تقال لزجر الإبل حتى تسرع المشي .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (8/409) :
"قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاقَة الَّتِي لَعَنَتْهَا الْمَرْأَة : ( خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَة ) وَفِي رِوَايَة : ( لَا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيْهَا لَعْنَة ) : إِنَّمَا قَالَ هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا , وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيهَا ، وَنَهْي غَيْرهَا عَنْ اللَّعْن , فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَة . وَالْمُرَاد النَّهْي عَنْ مُصَاحَبَته لِتِلْكَ النَّاقَة فِي الطَّرِيق , وَأَمَّا بَيْعهَا وَذَبْحهَا وَرُكُوبهَا فِي غَيْر مُصَاحَبَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات الَّتِي كَانَتْ جَائِزَة قَبْل هَذَا : فَهِيَ بَاقِيَة عَلَى الْجَوَاز ; لِأَنَّ الشَّرْع إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُصَاحَبَة , فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ" انتهى .
وقال الخطابي في "معالم السنن" (2/251) :
"قلت : زعم بعض أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بذلك فيها لأنه قد استجيب لها الدعاء عليها باللعن : واستدل على ذلك بقول : فإنها ملعونة.
وقد يحتمل أن يكون إنما فعل ذلك عقوبة لصاحبتها ، لئلا تعود إلى مثل قولها" انتهى .
وقال ابن القيم في حاشيته على "تهذيب السنن" :
"وَالصَّوَاب أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عُقُوبَة لَهَا ، لِئَلَّا تَعُود إلى مِثْل قَوْلهَا ، وَتَلْعَن مَا لَا يَسْتَحِقّ اللَّعْن ...
وَقَدْ حَكَى أَبُو عَبْد اللَّه بْن حَامِد عَنْ بَعْض أَصْحَاب أَحْمَد : أَنَّهُ مَنْ لَعَنْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعه ، زَالَ مُلْكه عَنْهُ . وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم" انتهى .
وقال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (2/366) :
"وَاسْتُفِيدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي لَعْنِ الدَّوَابِّ أَنَّهُ حَرَامٌ وَبِهِ صَرَّحَ أَئِمَّتُنَا" انتهى .
وقد ورد – أيضا - النهي عن لعن ما لا يستحق اللعن ، على جهة العموم ، وحذر الشرع من ذلك : أن تعود اللعنة على قائلها .
فروى الترمذي (1978) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا لَعَنَ الرِّيحَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (لَا تَلْعَنْ الرِّيحَ ، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنَّهُ مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ رَجَعَتْ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِ) .
وعموم هذا الحديث يدل على تحريم لعن من لا يستحق اللعن ، إنسانا كان ، أو حيوانا ، أو حتى جمادا ؛ فهذا ينطبق عليه أنه : شيء ؛ لا يستحق اللعن!! .
قال الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير" (3/509) :
"(لعن شيئًا) أي : من حيوان ، أو جماد" انتهى .
وقال ابن علان في "الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية" (7/53) :
"(لعن شيئًا) عام في كل شيء من إنسان وغيره" انتهى .
وفي "تكملة حاشية رد المحتار" (1/564) :
"لا يجوز لعن الدابة وغيرها من الجماد، وقد ورد التصريح بالنهي عن اللعن" انتهى .
وفي "حاشية قليوبي وعميرة" (11/63) الشاملة :
"وَإِنَّمَا يَحْرُمُ [اللعن] لِمُعَيَّنٍ ، وَلَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ كَالْجَمَادِ .
نَعَمْ ، يَجُوزُ لَعْنُ كَافِرٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ مَوْتِهِ" انتهى .
وقال الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/123) وهو يعدد آفات اللسان :
"الآفة الثامنة : اللعن إما لحيوان ، أو جماد ، أو إنسان ؛ وكل ذلك مذموم" انتهى
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
ما حكم سب البهائم، حيث أني شاهدت من يفعل ذلك، وخاصة عندما ينهمك ويتعب معها، وهو يسبها من غير شعور - كما يقول - وبعضهم يسب في الحلال باللعن وغيره؟
فأجاب :
"سب البهائم لا يجوز، وهكذا سب الجمادات؛ النبي صلى الله عليه وسلميقول : (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة). وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس المسلم بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع امرأة تسب ناقة ، تلعنها ، فأمر أن يلقى ما عليها وقال : (لا تصحبنا ناقة ملعونة). فالواجب على المسلم أن يحفظ لسانه عن السب للبهائم أو لأولاده أو لغيرهم.
أما سب الكفار على العموم أو الظالمين أو الفساق : فلا حرج ، إذا قال: لعن الله الظالمين، لعن الله الكافرين، لعن الفاسقين، لعن الله السارق، لعن الله شارب الخمر ، عموماً فلا حرج في ذلك" انتهى .
http://www.binbaz.org.sa/noor/341
ثانيا :
أما تسمية "المواعين" بـ "الملاعين": فهو مما يجب على المسلم حفظ لسانه عنه ، لأن "الملاعين" جمع "ملعون" كما في لسان العرب (13/387) ، و"القاموس المحيط" (ص 1588) .
وهذا يحتمل أنه دعاء على المواعين باللعنة ، فيكون من لعن الجماد ، وهو محرم كما سبق ، ويُخشى على قائل ذلك أن تعود اللعنة عليه .
ويحتمل أنه مجرد خبر عن هذه المواعين ، أنها ملعونة ، وهو خبر كاذب ، لأن المواعين ليست مكلفة حتى تكون معلونة ، ولا هي من شأنها أن يلعنها الناس ، ولا تستحق ذلك أصلا .
ولذلك قال القرطبي رحمه الله في شرحه لحديث المرأة التي لعنت ناقتها:
"حمله بعض الناس على ظاهره ، فقال : أطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على أن هذه الناقة قد لعنها الله تعالى ، وقد استجيب لصاحبتها فيها .
فإنَّ أراد هذا القائل : أن الله تعالى لعن هذه الناقة ، كما يلعن من استحق اللعنة من المكلفين؟ كان ذلك باطلا ، إذ الناقة ليست بمكلفة .
وأيضًا : فإنَّ الناقة لم يصدر منها ما يوجب لعنها" انتهى من "المفهم" (21/16).
والخلاصة : أنه لا يجوز للمسلم أن يلعن شيئا من الحيوانات ولا الجمادات ، والواجب على من فعل شيئا من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى ويكف لسانه عن مثل ذلك ويعزم على عدم العودة إلى ذلك مرة أخرى .
والله أعلم .
تعليق