ما صحة جملة "نص حكيم قاطع له سر" عن الحروف المقطعة بالقرآن الكريم؟
الحمد لله.
أولًا:
الحروف المقطعة الواردة في أول السور، " ليس لها معنى، ولها مغزى.
وهذا الجواب مبني على أنَّ الحرف في لغة العرب لا معنى له، والقرآن نزل بلغتهم؛ وقد سبق بيان ذلك مفصلاً في جواب السؤال رقم: (349682).
ثانيًا:
قولهم "نص حكيم قاطع له سر": هذا جمع للحروف المقطعة الواردة، لأن الحروف الهجائية لم تأت كلها في القرآن في الأحرف المقطعة، وإنما جاء بعضها فقط.
قال ابن كثير: "مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِحَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا: أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، وَهِيَ: ال م ص ر ك ي ع ط س ح ق ن، يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: نَصٌّ حَكِيمٌ قَاطِعٌ لَهُ سِرٌّ.
وَهِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ عَدَدًا، وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا أَشْرَفُ مِنَ الْمَتْرُوكِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَةِ التَّصْرِيفِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ، يَعْنِي مِنَ الْمَهْمُوسَةِ وَالْمَجْهُورَةِ، وَمِنَ الرِّخْوَةِ وَالشَّدِيدَةِ، وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ، وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ، وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ.
وَقَدْ سَرَدَهَا مُفَصَّلَةً، ثُمَّ قَالَ: فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ، وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الْمَعْدُودَةُ ثَلَاثُونَ بِالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ وَجُلَّهُ: يَنْزِلُ منزلة كله".
ثم قال: "وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ ابْتُدِئَ بِهَا لتُفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهَا أسماعُ الْمُشْرِكِينَ - إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ -، حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ تُلي عَلَيْهِمُ المؤلَّف مِنْهُ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ -أَيْضًا-، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا، بَلْ غَالِبُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ -أَيْضًا-لَانْبَغَى الِابْتِدَاءُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ افْتِتَاحَ سُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَالَّتِي تَلِيهَا، أَعْنِي الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، مُدْنِيَّتَانِ لَيْسَتَا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا، بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا.
وَلِهَذَا كُلُّ سُورَةٍ افْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ: فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا الِانْتِصَارُ لِلْقُرْآنِ، وَبَيَانُ إِعْجَازِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ، وَهُوَ الْوَاقِعُ فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً، وَلِهَذَا يَقُولُ تَعَالَى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: 1، 2] . الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [آلِ عِمْرَانَ: 1-3] . المص * كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الْأَعْرَافِ: 1، 2] . الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [إِبْرَاهِيمَ: 1] الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السَّجْدَةِ: 1، 2] . حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فُصِّلَتْ: 1، 2] . حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الشُّورَى: 1-3]، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لمن أمعن النظر، والله أعلم" انتهى من"تفسير ابن كثير" (1/ 159-160).
قال د. فضل عباس: "وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى أن كل سورة تفتتح بمثل هذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وبيان أحقيته، مما يدل على أن المقصود بها لفت النظر إلى اختصاصه بالإعجاز، مع أنه مركب من جنس هذه الحروف التي تفتتح بها السور .
ومن طرائفه في ذلك أنه نقل عن بعضهم: أن مجموع حروف الفواتح في القرآن أربعة عشر حرفًا يجمعها قولك: (نص حكيم قاطع له سر)، ولا شك أنه استئناس طريف، ولكن غير مقصود طبعًا"، انتهى، "التفسير والمفسرون" (2/693).
ثالثًا:
ليس هذا هو الجمع الوحيد لهذه الأحرف، بل نقل الزركشي عددًا من جمعها، قال: "وهي في القرآن في تسعة وعشرين سورة، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفًا .
يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.
وجمعها السهيلي في قوله: ألم يسطع نُور حق كُره.
وهذا الضابط في لفظه ثقل، وهو غير عذب في السمع، ولا في اللفظ.
ولو قال: لم يكرها نص حق سطع، لكان أعذب.
ومنهم من ضبط بقوله: طرق سمعك النصيحة، وصن سرًا يقطعك حمله، وعلى صراط حق يمسكه، وقيل: من حرص على بطه كاسر، وقيل: سر حصين قطع كلامه"، انتهى، "البرهان في علوم القرآن" (1/167).
والحاصل:
أنه هذا الجمع في العبارة المذكورة، لا بأس، وهو من ملح العلم، وغريب المناسبات، وليس هو من متين العلم، ولا مما ينبني عليه كبير شيء .
والله أعلم.