الحمد لله.
لعل مقصود أصحاب هذه الشبهة هو ما ورد في الرواية التي عند البيهقي في "دلائل النبوة" (7 / 213)، حيث روى بإسناده عن ابْن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: "مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا؛ فَمِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِي، وَحَدَاثَةِ سِنِّي، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ فِي حِجْرِي، فَأَخَذْتُ وِسَادَةً، فَوَسَّدْتُهَا رَأْسَهُ، وَوَضَعْتُهُ مِنْ حِجْرِي، ثُمَّ قُمْتُ مَعَ النِّسَاءِ أَبْكِي وألدم". وحسّن إسناده محققو "مسند الإمام أحمد" (43/369).
لفظ "ثم" لا يدل على عدم تعلق ما بعده بما قبله، فلا يقال بأن عتاب عائشة رضي الله عنها لنفسها راجع إلى مجرد وضع رأس النبي صلى الله عليه وسلم على الوسادة دون اللطم، بل المتبادر إلى الفهم من خبرها هذا أنها أنكرت على نفسها مجموع تصرفها.
وهذا كقول الله تعالى:(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة/75.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ) هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي: إن كفروا فلهم سابقة في ذلك... " انتهى من "تفسير القرطبي" (2 / 210 - 211).
فلا يقال هنا إن "ثم" فاصلة بين الجملتين، وأنّ هؤلاء اليهود إنّما ذموا على مجرد سماعهم كلام الله تعالى، فهذا فهم باطل لا يعقل.
وإنما ذموا على جمعهم بين السماع والتكذيب، حيث كذبوا بعد أن قامت عليهم الحجة بالوحي.
وكذا قول الله تعالى:(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة/79.
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى:
"التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرفا، أو نحوه مما يدل على هذا المعنى لقوله بعد ثم: ( يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلا إذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال...
وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى.
وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر" انتهى من"البحر المحيط" (1/ 447-448).
ثانيا:
قد ورد هذا الحديث برواية تبطل هذه الشبهة، حيث رواه الإمام أحمد في "المسند" (43/369)، من نفس الطريق لكن بلفظ: "مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَحْرِي، وَنَحْرِي وَفِي دَوْلَتِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللهِ قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ مَعَ النِّسَاءِ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي".
فهل يقال: إنها رضي الله عنها وصفت نفسها بحداثة السن من أجل أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، وليس لأنها وضعت رأسه على الوسادة، بسبب الفصل بينهما بلفظ "ثم" ؟!
ثالثا:
من المعقول أن وضع رأس الميت على الوسادة ليس مذموما، لأنه لا بد من وضع رأسه عاجلا أم آجلا، وإنما المتبادر من الحديث أنها أنكرت على نفسها سرعة وضعها لرأس النبي صلى الله عليه وسلم على الوسادة من أجل أن تلطم مع النساء.
والله أعلم.