قرأت لبعض المختصين في علم الحديث أن حديث دعاء الهم والحزن، وفيه تقسيم الأسماء الحسنى لمنزلة في الكتاب، وعلمها بعض الخلق، وبعضها استأثر الله بعلمها أنه ضعيف جدا، والراوي الجهني مجهول أو مشكوك في هويته، كما إن الشواهد أو المتابعات ضعيفة للغاية، ولا يتقوى الحديث بها، فهل هذا صحيح؟ وكيف يأخذ جمهور العلماء بحديث كهذا، ويقررون به عقيدتهم في أن الأسماء الحسنى لا تحصى ولا تعد؟
الحمد لله.
روى الإمام أحمد في "المسند" (6 / 246)، وابن حبان (972) وغيرهما: عن فُضَيْل بْن مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْجُهَنِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا .
اختلف أهل العلم في الحكم على درجة هذا الحديث، بسبب أمور أربعة:
الأمر الأول: اختلافهم في تعيين الراوي أبي سلمة الجهني.
فذهب جمع من أهل العلم إلى أنه مجهول لا يعرف، وذهب بعضهم إلى أنه معروف وثقة.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" وأبو سلمة الجهني ترجمه الحافظ في " التعجيل " وقال:
" مجهول. قاله الحسيني. وقال مرة: لا يُدري من هو. وهو كلام الذهبي في " الميزان "، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وأخرج حديثه في "صحيحه"، وقرأت بخط الحافظ بن عبد الهادي: يحتمل أن يكون خالد بن سلمة. قلت: وهو بعيد لأن خالدا مخزومي وهذا جهني ".
قلت: وما استبعده الحافظ هو الصواب، لما سيأتي.
ووافقه على ذلك الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على "المسند" (5 / 267)، وأضاف إلى ذلك قوله:
" وأقرب منه عندي أن يكون هو " موسى بن عبد الله أو ابن عبد الجهني، ويكنى أبا سلمة، فإنه من هذه الطبقة ".
قلت: وما استقربه الشيخ هو الذي أجزم به، بدليل ما ذكره، مع ضميمة شيء آخر، وهو أن موسى الجهني قد روى حديثا آخر عن القاسم بن عبد الرحمن به، وهو الحديث الذي قبله، فإذا ضمت إحدى الروايتين إلى الأخرى، ينتج أن الراوي عن القاسم هو موسى، أبو سلمة الجهني، وليس في الرواة من اسمه موسى الجهني، إلا موسى بن عبد الله الجهني، وهو الذي يكنى بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم، وكأن الحاكم رحمه الله أشار إلى هذه الحقيقة حين قال في الحديث: " صحيح على شرط مسلم ... "؛ فإن معنى ذلك أن رجاله رجال مسلم، ومنهم أبو سلمة الجهني، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان هو موسى بن عبد الله الجهني " انتهى من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1 / 383).
الأمر الثاني:
الراوي فضيل بن مرزوق، مختلف فيه، وثقه بعضهم وضعفه أخرون؛ قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" فضيل بن مرزوق الكوفي...
وثقه سفيان بن عيينة، وابن معين.
وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
وقال النسائي: ضعيف، وكذا ضعفه عثمان بن سعيد...
وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، كان ممن يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات.
قلت: عطية أضعف منه.
قال ابن عدي: عندي أنه إذا وافق الثقات يحتج به.
وروى أحمد بن أبي خيثمة، عن ابن معين: ضعيف. " انتهى من "ميزان الاعتدال" (3 / 362)
ولخص حاله الحافظ ابن حجر بقوله:
" فضيل بن مرزوق الأغر الرقاشي الكوفي، أبو عبد الرحمن: صدوق يهم، ورُمي بالتشيع " انتهى من "تقريب التهذيب" (ص 448).
الأمر الثالث:
الخلاف في سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة قليل الحديث، وقد تكلموا في روايته عن أبيه وكان صغيرا " انتهى من "تهذيب التهذيب" (2 / 526).
والأمر الرابع:
اختلافهم في صحة تقويته بما له من متابع وشاهد.
فقد روى ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (339)، حَدَّثَنِي أَبُو عَرُوبَةَ، حدثنا عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، حدثنا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ فَيَّاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حَزَنٌ فَلْيَدْعُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ: اللهمّ أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عبدك وابن أَمَتِكَ فِي قَبْضَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ .
لكن في إسناده عَبْد اللَّهِ بْن زُبَيْدٍ اليامي، وهو مستور الحال، ذكره الإمام البخاري في "التاريخ الكبير" (5 / 95)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5 / 62) ولم يذكراه بجرح ولا تعديل.
وبسبب هذه الأمور اختلف أهل العلم بالحديث في تصحيحه وتضعيفه؛ فبينما ترجح لدى بعضهم ضعفه، ترجح لآخرين تصحيحه وتحسينه.
والحديث حسّنه الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (4/100)، وقال رحمه الله تعالى:
" وقد أخرج ابن السني عقب حديث أبي موسى هذا عن ابن مسعود نحوه، وحديث ابن مسعود أثبت سندا وأشهر رجالا، وقد صححه بعض الأئمة " انتهى من"نتائج الأفكار" (4 / 98).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" وجملة القول؛ أن الحديث صحيح، من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى رضي الله عنهما؟!
وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وقد صرح بذلك في أكثر من كتاب من كتبه؛ منها "شفاء العليل" (ص 274) " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (1 / 387).
ثانيا:
الخلاف في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، كالاختلاف في المسائل الفقهية، فلا يمكن أن يلزم عالم باجتهاد عالم آخر، متى كان أهلا للنظر في ذلك، والاجتهاد في بحثه.
راجع للأهمية جواب سؤال: (ماذا يفعل المسلم مع اختلاف العلماء في التصحيح والتضعيف ؟).
وعلى ذلك؛ فمن ترجح عنده صحة هذا الحديث: فله أن يستدل به على وجود أسماء لله تعالى لا نعلمها.
ومن ظهر له ضعفه؛ لم يحتج به على ذلك؛ وإن كان مجرد ضعفه لا يلزم منه بطلان معناه؛ فبطلان الدليل لا يلزم منه بطلان المدلول، كما هو معلوم.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" والحديث الضّعيف لا يُدْفَع ، وإن لم يُحْتَجَّ به، وَرُبَّ حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى" انتهى من "التمهيد" (1 / 58).
خاصة مع وجود ما يشير إلى صحة معنى فقرة: ( أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ).
فالله سبحانه وتعالى لا يحيط به الناس علما، كما في قوله تعالى:
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا طه /110.
وكما في حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: "فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ " رواه مسلم (486).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لا يحصى ثناء عليه، ولو أحصى جميع أسمائه ، لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه " انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (3 / 332 - 333).
وفي حديث أنس في حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( ... فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ ... ) رواه مسلم (193).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" فأسماء الله وصفاته إذا لم يكن عندنا ما يدلنا عليها، لم يكن ذلك مستلزما لانتفائها؛ إذ ليس في الشرع ولا في العقل ما يدل على أنا لا بد أن نعلم كل ما هو ثابت له تعالى من الأسماء والصفات، بل قد قال أفضل الخلق وأعلمهم بالله في الحديث الصحيح: ( لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك )، وفي الحديث الصحيح حديث الشفاعة ( فأخر ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحصيها الآن ).
فإذا كان أفضل الخلق لا يحصي ثناء عليه، ولا يعرف الآن محامده التي يحمده بها عند السجود للشفاعة؛ فكيف يكون غيره عارفا بجميع محامد الله والثناء عليه وكل ما له من الأسماء الحسنى، فإنه داخل في محامده وفيما يثني عليه به " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7 / 573).
وطالع لمزيد الفائدة جواب سؤال: (أسماء الله تعالى غير محصورة في تسعة وتسعين اسماً).
والله أعلم.