الحمد لله.
أولا:
يعتقد الأشاعرة أن معاني القرآن غير مخلوقة، وأن ألفاظه مخلوقة، خلقها الله في اللوح المحفوظ، أو عبر بها جبريل عليه السلام، أو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال البيجوري:
"واعلم أن كلام الله يطلق على الكلام النفسي القديم، بمعنى أنه صفة قائمة بذاته تعالى.
وعلى الكلام اللفظي، بمعنى أنه خلقه، وليس لأحد في أصل تركيبه كسب.
وعلى هذا المعنى يحمل قول السيدة عائشة: ما بين دفتي المصحف كلام الله تعالى.
وإطلاقه عليهما: قيل بالاشتراك، وقيل حقيقي في النفسي، مجاز في اللفظي.
وعلى كلٍ؛ من أنكر أن ما بين دفتي المصحف كلام الله فقد كفر، إلا أن يريد أنه ليس هو الصفة القائمة بذاته تعالى.
ومع كون اللفظ الذي نقرؤه حادثاً، لا يجوز أن يقال: القرآن حادث، إلا في مقام التعليم؛ لأنه يطلق على الصفة القائمة بذاته أيضاً لكن مجازاً على الأرجح؛ فربما يتوهم من إطلاق أن القرآن حادث أن الصفة القائمة بذاته تعالى حادثة".
ثم قال: "وقد أضيف له تعالى كلام لفظي، كالقرآن، فإنه كلام الله قطعاً، بمعنى أنه خلقه في اللوح المحفوظ"
وقال البيجوري أيضاً: "ومذهب أهل السنة أن القرآن، بمعنى الكلام النفسي: ليس بمخلوق.
وأما القرآن، بمعنى اللفظ الذي نقرؤه: فهو مخلوق.
لكن يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق، ويراد به اللفظ الذي نقرؤه، إلا في مقام التعليم؛ لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق. ولذلك امتنعت الأئمة من القول بخلق القرآن" انتهى من "شرح البيجوري على جوهرة التوحيد"، ص 94، 95.
ولهم في المعنى القديم أو الكلام النفسي تقريرات لا تصح، فقد قالوا: إنه معنى قديم يستوي فيه الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، وأنه معنى واحد لا يتبعض، إن عُبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة.
قال عبد السلام اللقاني في "شرح جوهرة التوحيد"، ص 159: "(كذا الكلام) ... وهو صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية للسكوت والآفة، هو بها آمرٌ ناهٍ مخبر إلى غير ذلك، يدل عليها بالعبارة والكتابة والإشارة، فإذا عُبر عنها بالعربية: فالقرآن. أو بالسريانية: فالإنجيل. أو بالعبرانية: فالتوراة.
فالمسمى واحد، وإن اختلفت العبارات. هذا معنى كلامه سبحانه وتعالى" انتهى.
وينظر في معرفة مذهب الأشاعرة في مسألة الكلام –غير ما سبق-: "التمهيد" للباقلاني ص 283، "الإرشاد للجويني" ص 109، "معالم أصول الدين" للرازي ص 41، "المحصّل" له أيضا ص 403، "السنوسية الصغرى مع حاشية أم البراهين" ص 112، "السنوسية الكبرى مع حواشي الحامدي" ص 263 وما بعدها.
ثانيا:
الجهمية يقولون إن القرآن مخلوق، دون تفريق بين معنى ولفظ، ولهذا يقال: إن الأشاعرة قالوا في القرآن بنصف مقولة الجهمية، لكن الأشاعرة يثبتون لله صفة الكلام، خلافا للجهمية.
وقد عقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقارنة بين قول الأشاعرة والمعتزلة في هذه المسألة فقال:
" وكذلك قولكم في مسألة القرآن:
فإنه لما اشتُهر عند الخاص والعام: أن مذهب السلف والأئمة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين قالوا: إنه مخلوق حتى كفروهم، وصبر الأئمة على امتحان الجهمية مدة استيلائهم حتى نصر الله أهل السنة، وأطفأ الفتنة=
فتظاهرتم بالرد على المعتزلة، وموافقة السنة والجماعة، وانتسبتم إلى أئمة السنة في ذلك.
وعند التحقيق: فأنتم موافقون للمعتزلة من وجه، ومخالفوهم من وجه.
وما اختلفتم فيه أنتم وهم، فأنتم أقرب إلى السنة من وجه، وهم أقرب إلى السنة من وجه.
وقولهم أفسد في العقل والدين من وجه، وقولكم أفسد في العقل والدين من وجه.
وذلك أن المعتزلة قالوا: إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، والمتكلم مَن فعل الكلام، وقالوا: إن الكلام هو الحروف والأصوات، والقرآن الذي نزل به جبريل هو كلام الله.
وقالوا: الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر، وهذه أنواع الكلام، لا صفاته.
والقرآن غير التوراة، والتوراة غير الإنجيل، وأن الله سبحانه يتكلم بما شاء.
وقلتم أنتم: إن الكلام معنى واحد قديم قائم بذات المتكلم، هو الأمر والنهي والخبر، وهذه صفات الكلام لا أنواعه.
فإن عبر عن ذلك المعنى بالعبرية: كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية: كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية: كان قرآنا.
والحروف المؤلفة: ليست من الكلام، ولا هي كلام، والكلام الذي نزل به جبريل من الله ليس كلام الله، بل حكاية عن كلام الله، كما قاله ابن كلاب، أو عبارة عن كلام الله، كما قاله الأشعري.
ولا ريب أنكم خير من المعتزلة، حيث جعلتم المتكلم من قام به الكلام، وإن لم يقم به الكلام لا يكون متكلما به، كما أن من لم يقم به العلم والقدرة والحياة لا يكون عالما به، ولا قادرا بها، ولا حيا بها، وأنه لو كان الكلام مخلوقا في جسم من الأجسام، لكان ذلك الجسم هو المتكلم به، فكانت الشجرة هي القائلة لموسى: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه: 14]؛ فهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها.
ومن قال: إن المتكلم من فعل الكلام لزمه أن يكون كل كلام خلقه الله في محل كلاما له، فيكون إنطاقه للجلود كلاما له، بل يكون إنطاقه لكل ناطق كلاما له، وإلى هذا ذهب الاتحادية من الجهمية الحلولية الذين يقولون إن وجوده عين الموجودات، فيقول قائلهم:
وكل كلام في الوجود كلامه * سواء علينا نثرُه ونظامه.
لكن المعتزلة أجود منكم حيث سموا هذا القرآن الذي نزل به جبريل كلام الله، كما يقوله سائر المسلمين، وأنتم جعلتموه كلاما مجازا؛ ومن جعله منكم حقيقة، وجعل الكلام مشتركا كأبي المعالي وأتباعه: انتقضت قاعدته في أن المتكلم بالكلام من قام به، ولم يمكنكم أن تقولوا بقول أهل السنة؛ فإن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئا، لا كلام من قاله مبلغا مؤديا..." انتهى من "التسعينية" مطبوعة مع "الفتاوى الكبرى" (6/ 632).
ثالثا:
الأشاعرة القائلون بذلك: إمام عالم متأول، أو جاهل مقلد، وكلاهما معذور.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: " وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها.
فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق، وأخطأ: فإن الله يغفر له خطأه؛ كائنا ما كان. سواء كان في المسائل النظرية أو العملية.
هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام ".انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/ 346).
وقال رحمه الله: "والتحقيق في هذا: أن القول قد يكون كفرا، كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يُرى في الآخرة. ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر.
فيُطْلَق القول بتكفير القائل؛ كما قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر.
ولا يكفَّر الشخصُ المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة والزكاة واستحل الخمر والزنا، وتأول.
فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له، واستتابته، كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر؛ ففي غير ذلك أولى وأحرى" انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/619).
وينظر: جواب السؤال رقم: (256198)، ورقم: (289620).
والله أعلم