الحمد لله.
أولا:
روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (38008) وأحمد في "مسنده" (11208) والنسائي في "الكبرى" (8804) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ :
(لاَ تُوقِدُوا نَارًا بِلَيْلٍ).
ثُمَّ قَالَ: ( أَوْقِدُوا، وَاصْطَنِعُوا ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ قَوْمٌ بَعْدَكُمْ مُدَّكُمْ ، وَلاَ صَاعَكُمْ).
والحديث: حسن الإسناد كما حكم عليه الحافظ في "الفتح" (7/443) ومحققو المسند، وصحح إسناده الألباني في "الصحيحة" (1547).
ثانيا:
ظاهر سياق الحديث أنه لم يكن نهيا مطلقا عن إيقاد النار بالليل، بل كان لأجل تدبير خاص بحال النبي وأصحابه في هذا الظرف، ثم إنه رخص لهم بعد ذلك فيه، لما زال المحذور منه.
فقيل: إنما كان هذا "التدبير" لأجل رقة حالهم يومئذ، وأنه ليس بهم كبير حاجة إلى الاشتغال بإيقاد النار بالليل. ويقوي هذا ما ذكره في آخر الحديث من التعليل في الرخصة لهم بما يحصل لهم من البركة.
قال السندي، رحمه الله: " قوله (لَا تُوقِدُوا نَارًا بِلَيْلٍ) ظاهر السوق يقتضي أنه قال لهم ذلك، لضعف حالهم يومئذ، فبين أن الليل: يمضي غالبُها في النوم، فلا يحس الإنسان فيها ألم الجوع، فلا حاجة فيها إلى الطبخ، ثم يوم وسع الله تعالى عليهم، رخص لهم في ذلك. والله تعالى أعلم.
(وَاصْطَنِعُوا) بنون وعين مهملة، أي: أحسنوا، وهذا أقرب بما بعده، وفي أصل قديم: بياء موحدة وغين معجمة، بمعنى: استعملوا الإدام مع الطعام والله تعالى أعلم.
ثم رأيت في (المجمع) فإذا ذكره في النون والعين المهملة وقال: أي: اتخذوا صنيعًا، أي: طعامًا تنفقونه في سبيل الله." انتهى من "حاشية السندي على مسند الإمام أحمد" (10/462).
وقيل: إن هذا التدبير لأجل حال الغزو، فخشي أن يتراءى العدو نارهم، فيلتفتوا إليهم، ويعلموا بحالهم.
قال الشيخ الساعاتي، رحمه الله في "الفتح الرباني" (22/194) حيث قال: " الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك خوفاً من رؤية العدو إياهم. فلما أمن من العدو، وتم الصلح قال لهم: (أوقدوا) يعنى: ناركم، (واصطنعوا) يعنى: طعامكم.
وفيه منقبة عظيمة لأصحاب الحديبية وفضل كبير" انتهى.
وفي الحديث، كما ذكر الشيخ الساعاتي منقبة عظيمة لأهل الحديبية، وفضيلة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة.
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الموضع السابق : " قوله: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما. وعند أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، قال: لما كان بالحديبية: قال النبي صلى الله عليه وسلم لا توقدوا نارا بليل، فلما كان بعد ذلك قال: أوقدوا واصطنعوا؛ فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم" انتهى من "فتح الباري" (7/443).
وقد ثبت النهي – في غير هذا الحديث – عن إيقاد النور في البيوت ليلاً والنوم وتركها مشتعلة، خشية على أهل البيت من أن تشب فيه النار وهم نيام. وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم: (192731).
والله أعلم.