الحمد لله.
هذا الحديث صحيح، وهو مما اتفق عليه البخاري ومسلم، وقد روي من حديث عدد من الصحابة.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ.
فَقَالَ: لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) رواه البخاري (2365)، ومسلم (2242).
ورواه البخاري (3318)، ومسلم (2243) من حديث أبي هريرة، ولفظه عند مسلم: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ، لَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ).
ورواه البخاري (2364) من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الكُسُوفِ، فَقَالَ: (دَنَتْ مِنِّي النَّارُ، حَتَّى قُلْتُ: أَيْ رَبِّ وَأَنَا مَعَهُمْ؟ فَإِذَا امْرَأَةٌ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ -: تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ، قَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟ قَالُوا: حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا).
ورواه مسلم (904) من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: "كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ...
ثُمَّ قَالَ: (... وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ...).
والحديث نص على أن سبب دخولها النار هو تعذيبها للهرة حتى ماتت.
فقوله: ( فِي هِرَّةٍ )، أي بسببها.
قال ابن مالك رحمه الله تعالى:
" قول النبي: (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ)
قلت: تضمن هذا الحديث استعمال "في" دالة على التعليل، وهو مما خفي على أكثر النحويين مع وروده في القرآن العزيز والحديث والشعر القديم.
فمن الوارد في القرآن العظيم قوله تعالى: ( لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )، وقوله تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)..." انتهى من "شَوَاهِد التَّوضيح وَالتَّصحيح لمشكلات الجامع الصَّحيح" (ص 123).
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وقوله : (عذبت امرأة في هرة )؛ هذا نص في أن هذه المرأة إنما عذبت في النار بسبب قتل هذه الهرة بالحبس، وترك الطعام. وهذه المرأة التي تقدم : أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها في النار، وهي امرأة طويلة من بني إسرائيل ، وهل كانت كافرة ، أو لا ؟ كل ذلك محتمل، فإن كانت كافرة؛ ففيه دليل: على أن الكفار مخاطبون بالفروع ، ومعاقبون على تركها.
وإن لم تكن كافرة فقد تمحض أن سبب تعذيبها في النار حبس الهرة إلى أن ماتت جوعا" انتهى من "المفهم" (5/544).
لكن أثير إشكال؛ حاصله: كيف يُعذّب مسلم بسبب هرة أمرها هيّن؟
فروى الإمام أحمد في "المسند" (16 / 424) عن أَبي عَامِرٍ الْخَزَّاز، عَنْ سَيَّارٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَتْ: أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ أَنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا؟
فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ؟ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فَعَلَتْ، كَانَتْ كَافِرَةً، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي هِرَّةٍ، فَإِذَا حَدَّثْتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْظُرْ كَيْفَ تُحَدِّثُ".
وحسّنه محققو المسند، فقالوا: "إسناده حسن من أجل أبي عامر الخزاز- وهو صالح بن رستم -،وهو من رجال مسلم، وباقى رجاله ثقات " انتهى.
لكن عائشة رضي الله عنها؛ لم تنص على أن استدراكها على أبي هريرة هو أمر سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، بل الظاهر أن قولها رضي الله عنها: "الْمُؤْمِنَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي هِرَّةٍ" هو فهم منها واجتهاد.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" وظاهره : أنه ليس خبرها مرفوعا، بل قالته اجتهادا" انتهى من "التنوير" (6/ 90–91).
وعند النظر في نزاعها مع أبي هريرة رضي الله عنهما، نجد أن أبا هريرة رضي الله عنه قد وافقه جمع من الصحابة على هذه الرواية بهذا السياق، كما سبق بيانه (منهم عبد الله بن عمر، وأسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم)، وأن المرأة عذبت في النار بسبب تعذيبها للقطة.
فلم ينفرد أبو هريرة رضي الله عنه بهذا الحديث.
ثم على فرض أنه انفرد فلا يضره ذلك، ولا يطعن في الحديث، لأنه إنما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يقول برأيه ، أما عائشة رضي الله عنها، فالظاهر أنها لا تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما تقول باجتهادها، ومعلوم أنه لا يقدم اجتهاد أحد كائنا من كان على قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحاصل: أنه هذا الوعيد في حق من عذب الهرة، أو حبسها ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسواء كانت المرأة كافرة أو مسلمة، فالحديث قد علق عذابها في النار، على ما فعلت بالهرة، ولو كان تعذيبها لأجل الكفر، لم يكن لذكر الهرة هنا معنى، ولكان لغوا، يصان عنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنها إن كانت كافرة، فهي مخلدة في النار لأجل كفرها، ويزاد في عذابها في النار ما يزاد فيه لأجل ما فعلت بالهرة. فليس الكفار في النار بمنزلة سواء في عذابها، وقد قال الله عزوجل: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) النحل/88
وإن كانت مسلمة، فإنها تعذب على ذلك عذاب أهل الكبائر.
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قال القاضي: في هذا الحديث المؤاخذة بالصغائر، قال: وليس فيه أنها عذبت عليها بالنار، قال: ويحتمل أنها كانت كافرة فزيد في عذابها بذلك.
هذا كلامه، وليس بصواب، بل الصواب المصرح به في الحديث أنها عذبت بسبب الهرة، وهو كبيرة لأنها ربطتها ، وأصرت على ذلك حتى ماتت ، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هو مقرر في كتب الفقه وغيرها " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (6/ 207–208).
وقد ورد أيضا ما يعضد هذا الأمر ويقويه، فقد ورد النهي الشديد عن تعذيب الحيوان بجعله هدفا للرمي بالسلاح، حتى ورد لعن فاعل ذلك.
عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ، عَلَى الحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ، فَرَأَى غِلْمَانًا، أَوْ فِتْيَانًا، نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَقَالَ أَنَسٌ: "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ البَهَائِمُ" رواه البخاري (5513)، ومسلم (1956).
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ، أَوْ بِنَفَرٍ، نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟
" إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا" رواه البخاري (5515)، ومسلم (1958).
ولا شك تعمد الاعتداء على القطط بالسيارة، أمر مستشنع، تأباه الفطر السوية، ولا يقدم عليه إلا من نزعت الرحمة من قلبه، وغلبت عليه الشقوة.
فليحذر العبد أن يلقى الله جل جلاله، وقد تعمد مثل ذلك الأذى، لحيوان ضعيف، لا حول له ولا قوة ، ثم لا معنى لذلك إلا تمكن النفس الأمارة منه، وغلب طبع العدوان عليه. وليبادر بالتوبة النصوح إلى رب العالمين، والإحسان إلى الخلائق فيما بقي، فلعل الله أن يعفو عنه، ويحمل عنه حق هذا المخلوق الضعيف.
والله أعلم.