أريد شرحا لحديث: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالاً فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ). المسألة أنّ الحديث السابق ذكر "ينبغي أن تدعوني ( طلبا للمساعدة)؛ لأنّني وليّكم".
الحمد لله.
هذا الحديث بهذه الصيغة رواه الإمام مسلم (1619) عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيْعَةً، فَادْعُونِي فَأَنَا وَلِيُّهُ، وَأَيُّكُمْ مَا تَرَكَ مَالًا، فَلْيُؤْثَرْ بِمَالِهِ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانَ .
هذا الحديث خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، مبيّنا لهم أنه وليهم، حيث قال: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ.
والولي، هو: " الذي يتولَّى أمور الرَّجل بالإصلاح والمعونة على الخير، والنصر على الأعداء، وسدّ الفاقات ورفع الحاجات" انتهى من "المفهم"(4/575).
وقوله: (فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)، أي: كما نص على هذا الأمر القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ الأحزاب/6.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن للصحابة رضوان الله عليهم بأنه متولي أمورهم؛ فإنه يقضي عنهم ديونهم وما عليهم من حقوق، إن ماتوا ولم يتمكنوا من قضائها، إلا أنه لا يرثهم، بل ما يتركونه من أموال فهي لورثتهم، ولا يأخذ منها صلى الله عليه وسلم شيئا.
فمعنى: (فَادْعُونِي) لا علاقة له بوجه بدعاء المسألة والاستغاثة، أو التوسل، لا دخل لهذا الحديث بذلك الباب أصلا. ولا علاقة لهذا الحديث بمن جاء بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الخطاب للصحابة رضوان الله عليهم في حياته صلى الله عليه وسلم، بأنه إذا مات منهم أحد عليه ديون وحقوق فعلى أقاربه أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يؤدي عنه ديونه، ويتبيّن هذا المعنى من الرواية الأخرى لهذا الحديث:
فقد روى البخاري (5371)، ومسلم (1619) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟ فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ، قَالَ: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ.
ومن لفظ رواية البخاري (4781) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففيها:
... فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا، أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي، فَأَنَا مَوْلاَهُ.
وهذا هو المفهوم عند أهل العلم، ولذا استنبطوا من هذا الحديث أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحاكم والسلطان هو الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في قضاء ديون أموات المسلمين.
قال أبو المظفر ابن هبيرة رحمه الله تعالى:
"وفيه من الفقه: أن الرجل إذا ترك دينا ولم يترك قضاء له، قُضِي من سهم الغارمين، أو الفيء؛ إلا أنه ينبغي للإنسان أن لا يتوسع في الدين اتكالا على هذا، ولا يَدَّان إلا بقدر ضرورته، ناويا للقضاء بجهده، فإن سبقه الموت وفي ذمته دين لم يقضه؛ تعين قضاؤه من بيت المال" انتهى من "الإفصاح" (6/183).
وقال ابن الملقن رحمه الله تعالى:
"وقوله: ( فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ ) أي: مما يفيء الله عليه، [من] الغنائم والصدقات التي أمر الله بقسمتها على الغارمين والفقراء، وجعل للذرية نصيبًا في الفيء، وقضى منه دين المسلم.
وهكذا يلزم السلطان أن يفعله لمن مات وعليه دين على ما سلف، فإن لم يفعله وقع القصاص منهم في الآخرة" انتهى من"التوضيح" (15/ 153–154).
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى:
"من ادَّانَ في حق واجب، لفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء؛ فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله؛ لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات، أو من سهم الغارمين، أو من الفيء الراجع على المسلمين. قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته)" انتهى من"تفسير القرطبي" (5/415).
ومما يشير إلى هذا حديث مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: "أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تَقُولُ: المَوْتَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ رواه البخاري (3659)، ومسلم (2386).
فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى أبي بكر رضي الله عنه إن مات عليه الصلاة والسلام، ولم يقل لها عليك بأن تتوجهي إلي بالدعاء.
والله أعلم.