الحمد لله.
قال تعالى عن حمل مريم لعيسى عليهما السلام: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا مريم/ 22-23.
أولًا:
في "الصحاح": "وأجأْته إلى كذا؛ بمعنى: ألجأته، واضطررته إليه.
قال زهير بن أبي سُلْمى:
وجارٍ سار معتمدًا إليكم * أجاَءتْه المخافة والرجاء" انتهى من"الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" (1/42).
ويقول الشيخ محمد جبل: "ولعله وَضَح أن أصل المجيء: انحدار. ومن هنا يتضح مأتى استعمال "أجاءه إلى كذا" ، بمعنى: ألجأه واضطره، كأنه أحْدره أو دفعه"، انتهى من"المعجم الاشتقاقي المؤصل" (1/264).
ثانيًا:
قال الواحدي: "قوله تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ أي: الجأها واضطرها، يقال: جاء بها، وأجاءها بمعنىً.
هذا قول جميع أهل اللغة، وأنشدوا لزهير:
أَجَأَتْهُ المَخَافَةُ والرَّجَاء
قالوا: والعرب تقول في أمثالها: شر مَا أَجَاءكَ إلى مُخَّةِ عُرْقُوب، يريدون اضطرك وألجأك إليها.
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في تفسير (أجاءها): ألجأها"، انتهى من"التفسير البسيط" (14/219).
وذكر الطبري وغيره أن "أجاء" هو الفعل المتعدي من "جاء"، قال الطبري: "يقول تعالى ذكره: فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة، ثم قيل: لما أسقطت الباء منه أجاءها، كما يقال: أتيتك بزيد، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا، كما قال جل ثناؤه: آتوني زبر الحديد والمعنى: ائتوني بزبر الحديد، ولكن الألف مدت لما حذفت الباء، وكما قالوا: خرجت به وأخرجته، وذهبت به وأذهبته وإنما هو (أفعلَ) من المجيء، كما يقال: جاء هو، وأجأته أنا: أي جئت به، ومثل من أمثال العرب: "شر ما أجاءني إلى مُخَّة عرقوب"، وأشاء ويقال: شر ما يجيئك ويشيئك إلى ذلك، ومنه قول زهير:
وجار سار معتمدا إليكم … أجاءته المخافة والرجاء
يعني: جاء به، وأجاءه إلينا، وأشاءك: من لغة تميم، وأجاءك من لغة أهل العالية، وإنما تأول من تأول ذلك بمعنى: ألجأها، لأن المخاض لما أجاءها إلى جذع النخلة، كان قد ألجأها إليه"، انتهى من"تفسير الطبري" (15/ 492 - 493).
وقال الطاهر: "وأجاءها معناه ألجأها، وأصله جاء، عُدّي بالهمزة، فقيل: أجاءه، أي جعله جائيا. ثم أطلق مجازا على إلجاء شيء شيئا إلى شيء، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء، ويضطره إلى المجيء إليه"، انتهى من"التحرير والتنوير" (16/ 85).
فالحاصل:
أن الفعل (جاء): فعل لازم، وأن (أجاء) متعد بالهمزة ، وأصله (جاء)؛ ففيه معنى: جاء، وزيادة، والمعنى: أن مريم عليها السلام لقيت شدة من المخاض، فاضطُّرت إلى جذع النخلة لتحتضنها، فقد كانت - على الصحيح - في حملها كسائر النساء.
قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 129): "فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر .. والفاء وإن كانت للتعقيب، لكن تعقيب كل شيء بحسبه".
وقال ابن عطية في "تفسيره" (9/445): "وظاهر قوله: (فأجاءها المخاض) يقتضي أنها كانت على عُرف النساء، وتظاهرت الروايات على ذلك".
وقال الشنقيطي في "أضواء البيان" (4/ 244): "وأظهر الأقوال أنه حمل كعادة حمل النساء، وإن كان منشؤه خارقا للعادة".
وانظر: "التفسير البسيط" (14/218).
والله أعلم