آمل التفصيل في مسألة: متى يعد العمل معبرا عن حديث النفس؟
الحمد لله.
المؤاخذة بحديث النفس بالمعصية
لعل المقصود بهذا ما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ - أَوْ حَدَّثَتْ - بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ رواه البخاري (6664)، ومسلم (127).
فحديث النفس بالمعصية، من حيث المؤاخذة به على مراتب:
المرتبة الأولى:
أن يكون مجرد خاطر يخطر في النفس، فلا تميل إليه النفس وتدفعه.
فهذا لا يحاسب عليه العبد؛ لأنه فوق قدرته وورود الخواطر ليست بكسبه وارادته، والله تعالى لا يكلف نفسا ما ليس في قدرتها.
قال الله تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة/286.
قال ابن عطيّة رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) معناه: مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد، والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، فبيّن الله لهم ما أراد بالآية الأخرى، وخصّصها، ونص على حكمه: أنّه ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا )، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب " انتهى من"المحرر الوجيز" (1/390).
المرتبة الثانية:
أن تأنس النفس إلى الخواطر السيئة وتحبها، ولا تدفعها ولا تجاهدها، فإن كانت هذه الأفكار من أعمال القلب، كالحب والبغض والحسد والكبر ونحو هذا؛ فإنه يحاسب عليه العبد، وإن لم يتكلم به أو يعمل على وفقه بجوارحه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" العزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم، ويساكنها صاحبها، فهذا أيضا نوعان:
أحدهما: ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب، كالشك في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، أو غير ذلك من الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، فهذا كله يعاقب عليه العبد ، ويصير بذلك كافرا ومنافقا. وقد روي عن ابن عباس أنه حمل قوله تعالى: ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) البقرة (284)، على مثل هذا ... ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب، كمحبة ما يبغضه الله، وبغض ما يحبّه الله ... " انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/324).
المرتبة الثالثة:
أن يكون حديث النفس بالمعاصي التي تُعمل باللسان أو بالجوارح، على وجه الهمّ بها، لكن لم تتحرك نفسه إلى العمل بها، لا قولا ولا فعلا، فهذا حديث وهمّ معفو عنه، بنص الحديث: (مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ).
فإذا أصر العبد على إرادة ذلك المحرم، وأراده، وعزمه عليه، ففي المؤاخذة بمجرد ذلك – وإن لم يقترن به عمل - : فقد اختلف في المؤاخذة به. قال ابن رجب رحمه الله: " ... هذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: يؤاخذ به، قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما أوخذ. ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم ...
والقول الثاني: لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقا، ونسب ذلك إلى نص الشافعي، وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملا بالعمومات..". انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/325-326).
المرتبة الرابعة:
أن تتحرك نفسه نحو العمل بحديث نفسه، فيأتي بما يقدر عليه من قول أو فعل، فإنه يؤاخذ بهذا كما دلّ الحديث.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ ) يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه: فإنه يعاقب على الهم حينئذ، لأنه قد عمل بجوارحه معصية، وهو التكلم باللسان. ويدل على ذلك حديث الذي قال: (لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ) يعني: الذي يعصي الله في ماله، قال: (فهما في الوزر سواء).
ومن المتأخرين من قال: لا يعاقب على التكلم بما همّ به، ما لم تكن المعصية التي همّ بها قولا محرما، كالقذف والغيبة والكذب؛ فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح، فلا يأثم بمجرد تكلم ما هم به، وهذا قد يستدل به على حديث أبي هريرة المتقدم: ( وإِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَأَنَا أَغْفِرُهَا مَا لَمْ يَفْعَلْهَا ). ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس، جمعا بينه وبين قوله: ( مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ )، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحا، فإن قول القائل بلسانه: ( لو أن لي مالا، لعملت فيه بالمعاصي، كما عمل فلان )، ليس هو العمل بالمعصية التي همّ بها، وإنما أخبر عما همّ به فقط مما متعلّقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضا فالكلام بذلك محرم، فكيف يكون معفوا عنه، غير معاقب عليه؟ " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (2 / 322 – 323).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (39684)، ورقم: (99324).
والله أعلم.