الحمد لله.
روى الإمام أحمد في "المسند" (19 / 209)، و ابن ماجه (2697): عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: (الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)".
وصححه محققو المسند، والشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (7/237).
ووصية النبي صلى الله عليه وسلم هذه كانت في مرض موته، في آخر عهده بهذه الدنيا، وليست آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل ما رواه البخاري (2741) ومسلم (1636) عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: " ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ وَصِيًّا، فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي؟ - أَوْ قَالَتْ: حَجْرِي - فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟".
فيحمل قوله: (وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ) على أن هذا قرب وفاته عندما جهده المرض فصعب عليه الكلام والنفس.
كما تدل رواية ابن سعد في "الطبقات" (2/195)، قال: أَخْبَرَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغَرْغِرُ بِهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا كَادَ يفيضُ بِهَا لِسَانُهُ".
جاء في "تاج العروس" (13/230):
" ويتغرغر صوته في حلقه، أي يتردد " انتهى.
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَامَّةُ وَصِيَّةِ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ: (الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ" رواه الإمام أحمد في "المسند" (44/282).
واختلف أهل العلم في قوله : ( يفيض ) فذكر بعضهم أنها بالصاد المهملة.
قال ابن فارس، رحمه الله:
"(فَوَصَ) الفاءُ والواوُ والصّادُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلى خُلُوصٍ أوْ خَلاصٍ مِن شَيْءٍ. يُقالُ: قَبَضْتُ عَلى ذَنَبِ الضَّبِّ فَأفاصَ مِن يَدِي، أيْ خَلَّصَ ذَنْبَهُ. والمُفاوَصَةُ فِي الحَدِيثِ: الإبانَةُ. وما يُفِيصُ بِها لِسانُهُ، أيْ يُبَيِّنُ". انتهى، من "مقاييس اللغة" (4/460).
وقال أبو الحسين البغوي، رحمه الله:
"قَوْله: ( وما يَفيصُ بها لِسانُهُ ): هُوَ بالصّاد غير مُعْجمَة يَعْنِي: ما يبين كَلامه، يقالَ: فلان ما يفيص بِكَلِمَة: إذا لم يقدر على أن يتَكَلَّم بِبَيان، وفُلان ذُو إفاصة، أي: ذُو بَيان.
وأما الإفاضَة بالضاد المُعْجَمَة فِي قَوْله تَعالى: إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يُونُس ٦١]، أي: تخوضون فِيهِ وتكثرون". انتهى، من "شرح السنة" (9/350).
وقال الحافظ برهان الدين الناجي، رحمه الله:
"(يَفِيصُ): بوزن يَفيض، لكنه -بالصاد المهملة- ومعناه: يُفصِح ويُبِين.
قال الأصبهاني في ترغيبه: أي لم يقدر أن يتكلم بهذه الكلمة مُبَيَّنة، لما هو فيه من كرب الموت." انتهى، من "عجالة الإملاء" (5/989).
وينظر أيضا: "النهاية في غريب الحديث" (3/484)، "لسان العرب" (7/67).
وذهب آخرون إلى أنها بالضاد المعجمة (المنقوطة).
قال أبو عبيد الهروي:
"في الحديث: (وما يُفيض بها لسانه): أي ما يُبين، وفلان ذو إفاضة إذا تكلم؛ أي ذو بيان.
قوله تعالى: إذ تفيضون فيه أي تأخذون فيه، وتخوضون، وتُكثرون."انتهى، من "الغريبين" (5/1486).
وقال أبو القاسم الزمخشري:
"وَمَا يُفيض بهَا لِسَانه. أَي مَا يقدر على الإفصاح بهَا، يُقَال: كلمت فلانا، فما أَفَاضَ بِكَلِمَة، وَفُلَان ذُو إفَاضَة إِذا تكلم؛ أَي ذُو بَيَان وجريان. من قَوْلهم: فاض المَاء يفِيض، إِذا قطر. وأفاض ببوله إفَاضَة إِذا رمى بِهِ. وعينه يَاء على هَذَا.
وَإِن صحَّ مَا روي من الْمُفَاوضَة فِي الحَدِيث، وَهِي الْبَيَان؛ فَفِي عينه لُغَتَانِ، نَحْو قَوْلهم: قَاس يقيس ويقوس وضار يضير ويضور.". انتهى، من "الفائق في غريب الحديث" (3/149).
وبكل حال؛ فالمعنى على القولين واضح، كما هو ظاهر من كلام أهل العلم في شرح الكلمة في الحديث.
والحاصل:
أن هذا الحديث يدل على أن هذه الوصية كانت من آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من لفظه عدم الكلام بعدها.
والله أعلم.