يدعي بعض الناس أن: الإجماع والاحتجاج به يعتبر شركا، فالواجب الرجوع للكتاب والسنة، ولا اعتبار للإجماع بوجود آية قرآنية أو حديث صحيح، فإذا حرم الله الزنا مثلاً فما الحاجة لذكر الإجماع على تحريمه؟ ألا يُعد ذلك شركا وتشريعا مكان الشارع الحكيم؟
الحمد لله.
أولًا:
الشرك بالله في الحكم والتحاكم: هو أن تتخذ لله ندًا تتحاكم إليه، وترى استقلاليته بالحكم فيقضي مع الله ، أو من دون الله، ويُرجع إليه مع الله، أو في غير ما أذن الله .
قال الله تعالى عن اليهود والنصارى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون التوبة/31.
وقد استشكل الصحابي الجليل عدي بن حاتم لما أسلم هذه الآية لأنه يرى أنهم لا يقولون إن الرهبان آلهة وأرباب، يقول عدي بن حاتم: فقلت: "إنا لسنا نعبدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم أحمد(17548)، الطبراني (13690).
فالتحاكم إلى غير الله وشرعه ورسالة نبيه : يكون شركًا حين نجعل هذا الذي تحاكمنا إليه أصلًا مستقلًا نصرف له عبادة التحاكم هذه.
ومن مظاهر هذا الشرك أننا نعطيه سلطة إحلال الحرام وتحريم الحلال.
ثانيًا:
اتفق أهل السنة على أن الأدلة المعتبرة شرعاً أربعة، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وذلك من حيث الجملة
قال الشافعي: "وجهة العلم الخبر في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس" انتهى من "الرسالة" (39).
واتفقوا أيضًا على أن هذه الأدلة الأربعة ترجع إلى أصل واحد، هو الكتاب والسنة، إذ هما ملاك الدين وقوام الإسلام. "جامع بيان العلم وفضله" (2/110)، "الصواعق المرسلة" (2/520).
قال الشافعي: "وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله، أو سنة رسوله ، وأن ما سواهما تبع لهما" انتهى من "جماع العلم" (11).
وهذه الأدلة الأربعة متفقة لا تختلف، إذ يوافق بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً؛ لأن الجميع حق، والحق لا يتناقض.
وهي كذلك متلازمة لا تفترق، فجميع هذه الأدلة يرجع إلى الكتاب، والكتاب قد دل على حجية السنة، والكتاب والسنة دلا على حجية الإجماع، وهذه الأدلة الثلاثة دلت على حجية القياس.
يقول ابن تيمية: "وكذلك إذا قلنا: الكتاب والسنة والإجماع، فمدلول الثلاثة واحد؛ فإن كل ما في الكتاب: فالرسول موافق له، والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة، فليس في المؤمنين إلا من يوجب اتباع الكتاب، وكذلك كل ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم: فالقرآن يأمر باتباعه فيه، والمؤمنون مجمعون على ذلك، وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون: فإنه لا يكون إلا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (7/40).
وقد اتفق جمهور الأمة على أن هذه الأمة لا تجتمع إلا بدليل شرعي، ولا يمكن أن يكون إجماعها عن هوىً، أو قولًا على الله بغير علم، أو دون دليل.
وذلك لأن الأمة معصومة عن الخطأ، إذ القول على الله بدون دليل خطأ
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نصّ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/195).
فكما ترى: ليست حجية الإجماع مستقلة عن حجية الكتاب والسنة ، فضلا عن أن يكون مقابلا لهما، أو أن يكون حكمه قسيما لحكمهما . ولا الرجوع إليه إلا من حيث كونه تابعًا للكتاب والسنة ومبينًا لهما، لا أنه أصل مستقل بإنشاء حكم مستقل عن الوحي، أو نتحاكم إليه من دون الوحي؛ فهذا كله غلط ظاهر في فهم معنى الإجماع ، وحجيته ، ومجاله الوظيفي.
فالفرق بين رجوع المسلم للعلماء، كما تفعل في سؤالك أخي الكريم وبين رجوع اليهود والنصارى لأحبارهم ورهبانهم، هو نفس الفرق بين الإجماع وبين التحاكم لغير الله، فكما أن رجوعك هو للكشف عن مراد الله، لا أن العالم أو المفتي يستقل بالحكم، أو يحل الحرام، أو يحرم الحلال؛ فكذلك الإجماع: يكشف ويبين حكم الله ؛ فلا يحرم الحلال، ولا يحل الحرام.
ثالثًا:
وبخصوص سؤالك عن فائدة الإجماع رغم وجود النص، فقد ذكر العلماء لهذا فوائد منها:
1- التضييق على أهل الزيغ، فلا يستطيعون مخالفة الأمة في هذه المسائل التي اتفقت الأمة عليها.
2- العلم بالقضايا المجمع عليها من الأمة: يعطي الثقة بهذا الدين، ويؤلف قلوب المسلمين.
3- تأكيد حكم المسألة بتعدد الأدلة الدالة عليها.
4- أن الدليل من السنة قد يخفى على بعض الناس، فيعلم شرعية الحكم إذا بلغه الإجماع.
5- تقليل الخلاف بين الأمة.
6- الإنكار على من خالفه، بخلاف من يخالف في مسائل محتملة لا إجماع فيها.
مستفاد من كتاب "نظرة في الإجماع الأصولي" للدكتور عمر سليمان الأشقر.
ونرجو مراجعة جواب السؤال رقم: (256101).
والله أعلم.