الحمد لله.
أولا:
روى الإمام أحمد في "المسند" (30 / 355) عَنِ حُذَيْفَةُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ).
قال محققو المسند:
" إسناده حسن. داود بن إبراهيم من رجال "التعجيل"، وثقة أبو داود الطيالسي، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/280)، وقال: روى عن طاووس وحبيب بن سالم، روى عنه ابن المبارك وأبو داود الطيالسي. لكن البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 236 - 237)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/407) فرقا بين داود بن إبراهيم الذي يروي عن طاوس، وروى عنه ابن المبارك، وبين داود بن إبراهيم الواسطي الذي يروي عن حبيب بن سالم، وروى عنه أبو داود الطيالسي، وعلى أي القولين، فداود بن إبراهيم في هذه الرواية هو الذي روى عنه الطيالسي، وقد وثقه، وبقية رجاله ثقات رجال مسلم " انتهى.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" ومن طريق أحمد رواه الحافظ العراقي في "محجة القرب إلى محبة العرب "(2/17)، وقال: " هذا حديث صحيح، وداود بن إبراهيم الواسطي وثقه أبو داود الطيالسي، وابن حبان، وباقي رجاله محتج بهم في الصحيح ". يعني "صحيح مسلم".
لكن حبيبا هذا قال البخاري: فيه نظر.
وقال ابن عدي: ليس في متون أحاديثه حديث منكر، بل قد اضطرب في أسانيد ما يروى عنه، إلا أن أبا حاتم وأبا داود وابن حبان وثقوه.
فحديثه حسن على أقل الأحوال إن شاء الله تعالى، وقد قال فيه الحافظ: لا بأس به " انتهى من "السلسلة الصحيحة" (1 / 34 – 35).
ثانيا:
هذا الحديث يفصّل حال ولاة الأمة المسلمة من عهد النبوة إلى آخر الزمان.
فبيّن أنها تكون زمنا تحت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي حصل إلى وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثم ساس الأمة بعد ذلك خلفاء على نهج وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حافظوا على ما أمروا بمراعاته من الشورى وأحكام الشرع.
وهذا قد حصل في عصر الخلفاء الراشدين.
قال الملا علي القاري رحمه الله تعالى:
" ( على منهاج النبوة ) أي: طريقتها الصورية والمعنوية (ما شاء الله أن تكون) أي: الخلافة وهي ثلاثون سنة على ما ورد " انتهى من "مرقاة المفاتيح" (9/248).
قوله صلى الله عليه وسلم: ( ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا ).
أي يكون ملك يقع فيه عسف وظلم.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" وفيه: ( ثم يكون ملك عضوض ) أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يُعَضّون فيه عضا. والعَضوض: من أبنية المبالغة " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (3/253).
وهذا ما وقع، في حكم الملوك بعد الخلافة الراشدة، حيث وقعت مظالم وعسف كحال زمن الحجاج، فمر على الأمة جملة من الملوك على تلك الحال، مع مراعاتهم أحكام الشرع في الجملة، إلا أنهم راعوا هيبة ملكهم بأساليب ألحقوا بها ظلما بالناس.
ثم بعد هذا يزداد الظلم فيكون عتو وقهر وتجبر.
حيث تكون الولاية: ( مُلْكًا جَبْرِيَّةً ).
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" والحديث الآخر: ( ثم يكون ملك وجبروت ) أي عتو وقهر. يقال: جبار بين الجَبَرُوَّةِ، والجَبَرِيَّة، والجَبَرُوتِ " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (1/236).
وهذا كله وقع.
ويجب التنبه إلى أن هذه المراحل من حيث الجملة؛ وإلا فقد يتخللها في فترات وأماكن تولي أهل العدل والرحمة، كحال معاوية رضي الله عنه، فإنه كان ملكا إلا أنه كان ذا رحمة وحلم وتقوى، وكحال عهد عمر بن عبد العزيز، فقد عدّ خليفة راشدا، وهكذا فبين فترة وأخرى يظهر عادل ينفس به عن الناس.
كما فسر أهل العلم عموم حديث الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: (اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رواه البخاري (7068).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج، فقال: لا بد للناس من تنفيس " انتهى من "فتح الباري" (13/21).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" إن قال قائل: ما وجه هذا ونحن نعلم أنه جاء بعد الحجاج عمر ابن عبد العزيز، فبسط العدل وصلح الزمان؟ فالجواب: أن الكلام خرج على الغالب... " انتهى من "كشف المشكل" (3/ 295).
ثم بعد أزمان الظلم والابتعاد عن نهج النبوة، يعز الله تعالى هذه الأمة، ويختم لها بالخير والرحمة ويردها إلى النهج الصحيح: ( ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ).
والذي يظهر أن المقصود بهذه الخلافة: زمان المهدي، ونزول عيسى عليه السلام.
قال عبد الحق الدهلوي رحمه الله تعالى:
" قوله: (ثم تكون خلافة على منهاج نبوة): الظاهر أن المراد به زمن عيسى والمهدي " انتهى من "لمعات التنقيح" (8 / 578).
والله أعلم.