ما سبب كره بعض العلماء والتابعين؛ إمام حنبل، شعبة، وأخرون، ـ رحمهم الله تعالى ـ لقراءة حمزة الزيات؟ وهل حقيق إن شعبة قال: انه بدعة، ومن فضلك تذكر كل العلماء الذين كرهو هذه القراءة؟
الحمد لله.
أولا:
قراءة حمزة تنسب إلى الإمام حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزَّيَّات، الكوفي التميمي مولاهم، وأصله فارسي، وقيل: من صميمهم.
يُكَنَّى بأبي عمارة، ويُلَقَّب بـ(الزيات)، نسبة إلى بيع الزيت وجلبه ونقله من بلد إلى بلد.
ولد سنة ثمانين، وأدرك الصحابة بالسن، فيحتمل أن يكون رأى بعضَهم.
وقد نشأ في الكوفة التي كانت مأوى العلماء من القُرَّاء والمحدثين والفقهاء، وقد نَزَلَها خلْقٌ من الصحابة، ثُمَّ كان بها جمع منَ التابعين؛ كعلقمة، ومسروق، والشعبي، والنَّخَعي، والأعمش، وأصحابهم.
وقد كثُرَتْ أقوال الأئمة العلماء في الثناء على حمزة وتوْثيقه، ومن ذلك:
قول الإمام أحمد: "حمزة الزيات ثِقَة في الحديث".
وسأل الدارمي يحيى بن معين عن حمزة قائلاً: فحمزة ما حاله؟
قال ابن معين: "ثقة".
وقال الإمام سفيان بن سعيد الثَّوري (ت 161 هـ) الذي عرض على حمزة أربع مرات: "ما قرأ حمزة حرْفًا إلا بِأَثر".
وقال أبو شامة: "ولَم يوصفْ أحَدٌ منَ السبعة القُرَّاء بما وصف به حمزة من الزهد والتحرُّز عن أخْذ الأَجْر على القرآن".
ثانيا:
قراءة الإمام حمزة قراءة سبعية متواترة. وقد اشتهرتْ قراءته وانتشرتْ في بعض الأمصار انتشارًا واسعًا، حتى إنَّ بعض هذه الأقطار لا يكاد أهلُها يعرفون غير قراءته.
وما هذا الانتشار إلا لأنَّ هذه القراءة تلَقَّتْها الأمةُ بالقَبول، ورضيها القُرَّاءُ والعلماء العُدُول، مما يدلُّ على أن ما نقل حمزة ثابتٌ متواترٌ؛ ولذا وجد من رجع عن ذلك، ومدح قراءة حمزة وأثنى عليها، بل منهم مَن قرأ بها.
وقد كانتْ قراءة حمزة هي الغالبة والشائعة عند أهْل القيروان، حتى قدم محمد بن عمر بن خيرون المعافري الأندلسي (ت 306 هـ) بقراءة نافِع إليها، فاجتمع عليه الناسُ، ورحل إليه القُرَّاء من الآفاق.
وفي الكوفة صار مُعظم أهلِها إلى قراءة حمزة، كما ذكر أبو عُبيد في "كتاب القِراءات".
ثالثا:
انتقد على قراءة حمزة كثرة الإمالة والمد والإدغام والهمز.
وممن نقل عنه ذلك: أحمد رحمه الله، والثوري وابن مهدي وابن قتيبة وغيرهم.
قال حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ): "سمعتُ أحمد يكره الإمالة؛ مثل: وَالضُّحَى ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وقال: أكره الخفْض الشديد والإدغام".
وقال ابن قدامة رحمه الله: " ولم يكره قراءة أحد من العشرة، إلا قراءة حمزة والكسائي؛ لما فيها من الكسر والإدغام، والتكلف، وزيادة المد. وروي عن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نزل القرآن بالتفخيم وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن بالتفخيم والتثقيل، نحو الجمعة وأشباه ذلك، ونقل عنه التسهيل في ذلك، وأن قراءتهما في الصلاة جائزة. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إمام كان يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه؟ قال: لا يبلغ به هذا كله، ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة" انتهى من "المغني" (1/354).
وقال في "الشرح الكبير": "ولأنها تَتَضَمَّن الإدغام الفاحش، وفيه إذهاب حُرُوف كثيرة من كتاب الله تعالى، ينقص بإدغام كل حرف عشر حسنات. ورويت كراهتها والتشديد فيها عن جماعة من السلف منهم الثوري وابن مهدي ويزيد بن هارون وسفيان بن عيينة فروي عنه أنه قال: لو صليت خلف إنسان يقرأ قراءة حمزة لأعدت صلاتي، وقال أبو بكر بن عياش: قراءة حمزة بدعة" انتهى من "الشرح الكبير" (1/535).
وقد أجيب عن ذلك من وجوه:
الأول: أن قراءة حمزة متواترة. وقد تقدم عن سفيان الثوري قوله: ما قرأ حمزة حرفا إلا بأثر، ولكنَّ أمرَ القراءات السبع أو العشر لم يكن قد استقرَّ بعدُ، وربما كان يُقرَأ بالشاذِّ، ولعله لم يبلغ المنكرين لاختيارات بعض القراء، كحمزة وغيره، ممن تواترت قراءاتهم: أن ما أنكروه متواتر؛ وإلا لم يسعهم أن يردُّوه.
قال السخاوي رحمه الله عن حمزة: "وإنما اتخذه الناسُ إمامًا في القراءة لعلمهم بصحة قراءته، وأنها مأخوذةٌ عن أئمة القرآن الذين تحققوا بإقرائه، وكانوا أئمة يُقتدَى بهم من التابعين وتابعي التابعين". انتهى من "جمال القراء" (2/471).
الثاني: أن كراهة مَن كره قراءة حمزة: تحمل على ما سمعوه مِن مُبالغة ناقلي قراءة حمزة عنه، لا لما سمعوه من قراءته مباشرة، كما قال ابن الجزري رحمه الله في ترجمة حمزة:
"وأما ما ذكر عن عبد الله بن إدريس وأحمد بن حنبل من كراهة قراءة حمزة، فإنَّ ذلك محمول على قراءة من سمعا منه، ناقلاً عن حمزة، وما آفةُ الأخبار إلا رُواتها. قال مجاهد: قال محمد بن الهيثم: والسبب في ذلك أن رجلاً ممن قرأ على سليم حضر مجلس ابن دريس فقرأ، فسمع ابن إدريس ألفاظاً فيها إفراط في المد والهمز، وغير ذلك من التكلف، فكره ذلك ابن إدريس وطعن فيه، قال محمد بن الهيثم: وقد كان حمزة يكره هذا وينهى عنه " انتهى من "غاية النهاية" لابن الجزري (1/ 263).
ويدلُّ لذلك نهي حمزة نفسه عن المبالغة في المد.
قال عبد الله بن صالح العجلي: "قرأ أخ لي أكبر منِّي على حمزة، فجعل يمد، فقال له حمزة: لا تفعل، أمَا علِمْتَ أن ما كان فوق الجعودة فهو قطط، وما كان فوق البياض فهو برص، وما كان فوق القراءة فليس بقراءة".
وذكر تلميذ الإمام حمزة : محمد بن الهيثم النخعي الكوفي أنه صلى خلف شيخه حمزة صلاة جهرية فكان لا يمد في الصلاة ذلك المد الشديد ، ولا يهمز الهمز الشديد. انتهى من "غاية النهاية" لابن الجزري (2/274).
وقال السخاوي: "وقد عاب قوم قراءة حمزة- رحمه الله- وإنما كان يأخذ المبتدئين بالتأنِّي والترتيل، وينهاهم مع ذلك عن تجاوُز الحد" انتهى من "جمال القراء" للسخاوي (2/471).
الثالث: أنَّ الإمالة قد قرأ بها أكثر القراء دون انتقاد على أحد منهم، قال الهذلي: "ولو كانت الإمالة مُحدثة لكان اعتراضُ النحويين عليها أكثر، كيف وما مِن أحد من القراء إلا ورُويَتْ عنه الإمالة، قلَّتْ أو كثُرتْ، ولم يَعَفْها أحدٌ منهم".
الرابع: أنَّ الإدغام أيضًا لُغة من لغات العرب، نزَل القرآن به، وهو من الأحْرُف السبعة التي نُقِلَتْ بالتواتُر.
وليس الإدغام خاصًّا بقراءة حمزة، بل يشترك جميع القراء في وُجُود الإدغام في قراءتِهم، مع تفاوُتهم فيه قلَّة وكثرة.
وينظر: القراءات المنتقدة على الإمام حمزة والرد على منتقدها وبيان وجهها" للدكتور سالم بن غرم الله الزهراني.
و
قراءة الإمام حمزة الزيات رحمه الله. لماذا كره القراءة بها بعض أهل العلم ؟!
والحاصل:
أن قراءة حمزة قراءة متواترة، ولا يضره ما انتقد عليه، وقد انعقد الإجماع على قبول قراءته، كما قال الذهبي رحمه الله:
" حمزة بن حبيب أبو عمارة الكوفي الزيات، شيخ القراء وأحد السبعة الأئمة...
قد انعقد الإجماع بأخرة على تلقى قراءة حمزة بالقبول، والإنكار على من تكلم فيها، فقد كان من بعض السلف في الصدر الأول فيها مقال.
وكان يزيد بن هارون ينهى عن قراءة حمزة، رواه سليمان بن أبي شيخ وغيره عنه.
وقال أحمد بن سنان القطان: كان يزيد بن هارون يكره قراءة حمزة كراهية شديدة. وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لو كان لي سلطان على من يقرأ قراءة حمزة لأوجعت ظهره.
وكان أحمد بن حنبل يكره قراءة حمزة.
وحكى زكريا الساجي أن أبا بكر بن عياش قال: قراءة حمزة بدعة.
يريد ما فيها من المد المفرط والسكت وتغيير الهمز في الوقف والإمالة وغير ذلك.
وكذا جاء عن عبد الله بن إدريس الأودي وغيره التبرم بقراءة حمزة...
قلت: يكفى حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له، فإنه قال: ما قرأ حمزة حرفا إلا بأثر" انتهى من "ميزان الاعتدال" (1/ 606).
والله أعلم.