أريد شرح حديث : "حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أحَدَهُما وأَنَا أنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: (أنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)، وحَدَّثَنَا عن رَفْعِهَا قالَ: (يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمَانَةُ مِن قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أثَرُهَا مِثْلَ أثَرِ الوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى فِيهَا أثَرُهَا مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ علَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وليسَ فيه شيءٌ، ويُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فلا يَكَادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمَانَةَ، فيُقَالُ: إنَّ في بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أمِينًا، ويُقَالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ وما أظْرَفَهُ وما أجْلَدَهُ، وما في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمَانٍ)، ولقَدْ أتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، ولَا أُبَالِي أيُّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الإسْلَامُ، وإنْ كانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، وأَمَّا اليَومَ: فَما كُنْتُ أُبَايِعُ إلَّا فُلَانًا وفُلَانًا" وجزاكم الله خيرًا
الحمد لله.
عَنْ حُذَيْفَة قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ: رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا: أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.
وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.
"وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا" رواه البخاري (6497)، ومسلم (143).
فقوله صلى الله عليه وسلم: أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ.
والجذر: الأصل.
والأمانة: هي الثقة وعدم الخيانة.
أي أن الله تعالى فطر قلوب العباد على الأمانة وعدم الخيانة، ثم نزل الوحي مثبتا لها، فمن تفقه في الكتاب والسنة، وعمل بهما: تمكنت الأمانة في قلبه وثبتت.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" الجَذرُ: الأصل من كل شيء. ومعنى إنزالها في القلوب: أنّ الله تعالى جبل القلوب الكاملة على القيام بحقّ الأمانة؛ من حفظها واحترامها، وأدائها لمستحقّها، وعلى النُّفرة من الخِيانة فيها؛ لتنتظم المصالح بذلك...
والأمانة: كلّ ما يُوكلُ إلى الإنسان حفظه ويُخَلَّى بينه وبينه؛ ومن هنا سُمِّيَ التكليفُ أمانةً في قوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ) في قولِ كثيرٍ من المفسِّرين " انتهى من "المفهم" (1/356).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" قوله: (جَذْرِ) بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة: وهو أصل الشيء…
فقوله صلى الله عليه وسلم: ( أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ) يعني في أصلها، ثم أنزل عليهم من القرآن والسنة ما يثبت ويؤيد هذا الأصل، فجاء القرآن والسنة مؤيدا للفطرة التي فطر الناس عليها، وعلموا من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فازدادوا بذلك إيمانا وثباتا وأداء للأمانة " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (2/473).
وقوله صلى الله عليه وسلم: وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ.
ومعنى هذا: أن الله تعالى يسلب الناس هذه الأمانة ويأخذها من قلوبهم شيئا فشيئا، ولا يأخذها من قلوب الناس من غير سبب منهم، فلا يسلبها من قلوب أهل الصلاح ومن علم في قلوبهم الخير، وإنما يسلبها من قلب من لا يستحقها من أهل العصيان والضلال.
فحصول الشر وارتفاع الخير من قلب العبد إنما سببه السيئات والانصراف عن شرع الله تعالى، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ الصف/5.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" قال: (فَلَمَّا زَاغُوا) أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم ( أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، لا لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه، وإنما ذلك بسبب منهم، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 858).
وهذا كحال من يصاحب أهل الخيانة ولا ينكر عليهم لا بجوارحه ولا بقلبه، حتى يقع في التشبه بهم، ومن تكون الأمانة فيه لسبب دنيوي، وليس لوجه الله تعالى، فإذا أزال الله تعالى السبب الدنيوي زالت الأمانة من قلب صاحبها، وكمن يستغرق في الذنوب حتى تموت التقوى في قلبه.
قال ابن هبيرة رحمه الله تعالى:
" وقوله: (حدثنا عن رفع الأمانة ). لما كانت الأمانة في قلوب الرجال مختلفة الأسباب ... فمن كان أداؤه للأمانة بين الناس ليأتمنه الناس، فذلك الذي إذا زال الناس الذين كان يؤدي الأمانة لأجلهم، انقطع السبب الذي كانت الأمانة تنبع من قلبه لأجله، فينام فيصبح وقد قبضت الأمانة من قلبه " انتهى من "الإفصاح عن معاني الصحاح" (2/212).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وحاصل الخبر: أنه أنذر برفع الأمانة، وأن الموصوف بالأمانة يُسْلَبُها حتى يصير خائنا بعد أن كان أمينا، وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لمن خالط أهل الخيانة، فإنه يصير خائنا؛ لأن القرين يقتدي بقرينه " انتهى من "فتح الباري" (13/39).
وقوله صلى الله عليه وسلم: فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ.
أي: إن الأمانة تُرفع من قلب من لا يستحقها شيئا فشيئا، وكلما رفع منها شيء ترك في قلب صاحبها أثرا، فيكون الأثر بداية مثل الْوَكْتِ: وهو الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه.
ثم مثل الْمَجْلِ: وهو الأثر الذي يتركه العمل بالفأس ونحوه في اليد، ومثل أثر الحريق على الجلد، فيكون مكان الحرق بمرور الجمر مُنْتَبِرًا أي منتفخا لكنه انتفاخ لا يحتوي في داخله إلا على ماء لا نفع فيه.
قال ابن الملك رحمه الله تعالى:
" ( وليس فيه شيء )؛ أي: شيء صالح، بل ماء فاسد، كذلك هذا الرجل يحسبه الناس صالحا، ولا يكون فيه من الصلاح والإيمان؛ يعني: أن الأمانة تُقبَض وتُرفَع عن القلوب شيئا فشيئا؛ عقوبة لأصحابها على ما اكتسبوا من الذنوب، حتى إن الرجل إذا استيقظ من منامه لا يجد قلبه على ما كان عليه؛ لأنه أولا لا يبقى في قلبه من الأمانة أثر إلا أثر الوكت، وثانيا مثل أثر المَجل، أراد به: خلو القلب عنها، مع أثر أثرها " انتهى من "شرح المصابيح" (5/486).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ويُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فلا يَكَادُ أحَدٌ يُؤَدِّي الأمَانَةَ، فيُقَالُ: إنَّ في بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أمِينًا.
أي: وبسبب كثرة ارتفاع الأمانة من قلوب الناس لفساد حالهم، يصبحون يتبايعون، لا يأمن بعضهم بعضا، ويندر أهل الأمانة ويقلّون.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ولكن أخبر بالحديث الثاني أن هذه الأمانة سوف تنزع من قلوب الرجال والعياذ بالله، تنزع فيصبح الناس يتحدثون أن في بني فلان رجلا أمينا، يعني أنك لا تكاد تجد في القبيلة رجلا واحدا أمينا، والباقي كلهم على خيانة، لم يؤدوا الأمانة.
ولقد شاهد الناس اليوم مصداق هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك تستعرض الناس رجلا رجلا حتى تبلغ إلى حدّ المائة أو المئات، فلا تجد الرجل الأمين الذي أدى الأمانة كما ينبغي في حق الله ولا في حقّ الناس.
قد تجد رجلا أمينا في حق الله، ويؤدي الصلاة، ويؤدى الزكاة، يصوم، يحج، يذكر الله كثيرا، يسبح، لكنه في المال ليس أمينا، إن وكل إليه عمل حكومي فرط وصار لا يأتي للدوام إلا متأخرا، ويخرج قبل انتهاء الوقت، ويضيع الأيام الكثيرة في أشغاله الخاصة، ولا يبالي، مع أنك تجده في مقدمة الناس في المساجد، وفي الصدقات، وفي الصيام، وفي الحج، لكنه ليس أمينا من جهة أخرى " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (2/473).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ويُقَالُ لِلرَّجُلِ: ما أعْقَلَهُ وما أظْرَفَهُ وما أجْلَدَهُ، وما في قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن إيمَانٍ.
أي يقل وصف الناس بالصلاح والأمانة، وإنما يكون غاية ما يهتمون به حسن المظهر من قوة بدن، وحسن صورة، وبلاغة لسان.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعلى:
" وَقَوله: ( فَلَا يكَاد أحد يُؤَدِّي الْأَمَانَة ) أي يقل من يؤدّيها. ويكاد بمعنى يقارب.
وقوله: ما أجلده: أي ما أقواه.
وقوله: ما أظرفه. قرأت على شيخنا أبي منصور اللّغوِيّ قال: النّاس يعنون بقولهم فلان ظريف: أنه حسن اللباس، لَبِقُه، ويخصونه بذلك، وليس كذلك، وإنّما الظَّرف في اللّسان والجسم.
أخْبرت عن الحسن بن عليّ عن الخزاز عن أبي عمر عن ثعلب قال: الظريف: يكون حسن الوجه وحسن اللّسان، الظّرف في المنطق والجسم... " انتهى من "كشف المشكل" (1/380).
وقال ابن الملك رحمه الله تعالى:
" ( ولا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة )؛ أي: لا يَقرُب يؤدّيها في المعاملات؛ لأن حفظ الأمانة من أثر كمال الإيمان، فإذا أُنقص الإيمان نقصت الأمانة؛ يعني: لا يبقى من يحفظ الأمانة إلا قليل، حتى يكون في ناحيةٍ واحدٌ.
(فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقلَه! وما أظرفَه! وما أَجلدَه! )، (ما) في الثلاثة: للتعجب؛ يعني: يُمدَح أهلُ ذلك الزمان بكثرة العقل والظرافة والجلادة، لا بكثرة الصلاح " انتهى من "شرح مصابيح السنة" (5/486).
وهذا – والله المستعان - مشاهد اليوم، فكثير من الناس في واقع الحياة، ومثال ذلك: ما نراه في وسائل التواصل؛ إنما يعجبون ويجتمعون على من حسنت صورته وقويت جثته وفصح لسانه، فأصبحت هذه الأشياء عندهم هي مقياس الخيرية والفضل، وأما من لم يُعرف بهذه الأشياء، ولو كان صالح القلب أمينه: فلا يكاد يُلتفت إليه لا في أمور الدين ولا الدنيا.
وقول حذيفة رضي الله عنه: "وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الْإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا".
أي: إنه رأى رضي الله عنه أن الناس في الزمان والمكان الذي حدث فيه بهذا الحديث أقل أمانة ممن سبقوهم، حيث كان الناس من قبل يتبايع المسلمون مع بعضهم البعض، أو حتى مع أهل الذمة، من غير أن تفتيش عن الحال؛ لأن المؤمن منهم يمنعه إيمانه عن الغش، والكتابي المعاهد، إن غش منعه من له سلطة وولاية عليه من أمير وغيره، وكان الولاة يومئذ من أهل الإسلام والأمانة.
أما بعد ذلك، فقد بدأت الأمانة تقل شيئا فشيئا، فأصبح لا يتعامل إلا مع من يعرفه ويثق في أمانته.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" قوله: ( وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ. . . إلخ) يشير إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان، وكانت وفاة حذيفة في أول سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير فأشار إليه...
قوله: (ولا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ ) … مراده المبايعة في السلع ونحوها، لا المبايعة بالخلافة ولا الإمارة...
والمراد: أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أولا، كان يُقْدِم على مبايعة من اتفق، من غير بحث عن حاله، فلما بدا التغير في الناس، وظهرت الخيانة: صار لا يبايع إلا من يعرف حاله.
ثم أجاب عن إيراد مقدر؛ كأن قائلا قال له: لم تزل الخيانة موجودة؛ لأن الوقت الذي أشرت إليه كان أهل الكفر فيه موجودين وهم أهل الخيانة؟
فأجاب بأنه: وإن كان الأمر كذلك، لكنه كان يثق بالمؤمن لذاته، وبالكافر لوجود ساعيه، وهو الحاكم الذي يحكم عليه، وكانوا لا يستعملون في كل عمل قل أو جل إلا المسلم، فكان واثقا بإنصافه وتخليص حقه من الكافر إن خانه، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه، فإنه صار لا يبايع إلا أفرادا من الناس يثق بهم " انتهى من "فتح الباري" (13/ 39 - 40).
والله أعلم.