أريد أن أفهم مسألة القدر كما فهمها الصحابة، في هذا الحديث: "سأل غلامان شابان النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو في شيء يستأنف؟ فقال : (بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير)، قالا ففيم العمل إذا؟ قال: (اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له)، قالا فالآن نجد ونعمل"، أريد أن أفهم ما فهموه في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فكل عامل ميسر لعمله الذي خلق له)، هل يمكن مخالفة ما خلقنا له باختيارنا، ولهذا نحن نعاقب ونثاب!!؟ يقول الله عز وجل(وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون)، ومن هذه الآية نفهم أن كل العباد قد خلقوا للعبادة، ونرى أن كثيرا من العباد لا يصلي، فهل هذا العابد خالف ما خلق له؟ هل هذا هو سر الله في القدر؟ إننا لا نعلم كيف خلقنا، وكتب أقدارنا، وخيرنا بينها، وعلم ما سنختار؟ أهذا هو سر القدر المخفي عنا، أننا لا نعلم كيف أعطانا قدرة الاختيار التي سنجازى ونعاقب بها؟
الحمد لله.
الحديث المذكور في السؤال رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن. فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟
قال (لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير).
قال: ففيم العمل؟
فقال (اعملوا فكل ميسر) مسلم (2648)، وفي روايته الأخرى: (كل ميسر لما خلق له) (2649).
وفي رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد، إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة).
قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟
قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) البخاري (4666).
وأما اللفظ الوارد في السؤال، فلم يذكره أحد من أهل السنن، فيما وقفنا عليه، وإنما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة في تمييز الصحابة مرسلا.
وبكل حال؛ فإن معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن الله كتب مقادير الأشياء، ومصير الخلائق، في الكتاب السابق عنده، من قبل أن يخلقهم.
وقد استشكل بعض الصحابة هذا الأمر، وسألوا: إذا كان كل شيء قد كُتب ، حتى مقعد العبد من الجنة والنار، وإذا كان معلوما أن أحدا لا يغير ما قد كتب من قبل أن يخلق ، ولا بإمكانه أن يخرج عنه ؛ فما قيمة أن يعمل الناس لأمر قد فرغ منه ؟!
فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الكتب لا يعارض العمل، وأن كل إنسان ميسر للعمل بما كتبه الله؛ لأن ما كتبه الله على العبد، إنما بما يكون بعمل العبد، طاعته ومعصيته؛ فكما كتب العمل، فقد كتب – كذلك - اختيار العامل لهذا العمل ، وفعله له.
قال ابن بطال رحمه الله: "لم يخبرنا الله أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق في علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة، وأنه يعمل بطاعته، وفى هذا أنه من أهل الشقاء، وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تعالى ونهى؛ ليطيعه المطيع منهم، فيستوجب بطاعته الجنة، ويستحق العقاب منهم بمعصيته العاصي، فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله على خلقه.
ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) : أنّ كل فريق من هذين مسهلٌ له العملُ الذى اختاره لنفسه.
فعلم الله نافذ في خلقه بما هم به عاملون، وكتابه الذي كتبه قبل خلقه إياهم بأعمالهم لم يضطر أحدا منهم إلى عمله ذلك" انتهى باختصار من "شرح صحيح البخاري لابن بطال" (10/ 304).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وكتب له مقعده من الجنة ومقعده من النار) قالوا: يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) : نقول أنت مكتوب أنك في الجنة أو في النار بسبب عملك، فاعمل بعمل أهل الجنة لتكون من أهلها" انتهى من "تفسير سورة غافر" (ص62).
ثانياً:
سر القدر هو أن الإنسان لا يعلم ماذا كتب عند الله، ولا يمكنه الاتكال على الكتاب وترك العمل؛ لأنه لا سبيل إلى العلم به إلا بعد وقوعه، فيلزمه العمل؛ لأنه لا يصح أن يحتج بحجة لا يعلمها.
وهذا من حكمة الله؛ لأنه لو عرف، لحصل الاتكال على القدر، وهذا مناف لحقيقة ما كُتب؛ لأنّ الله تعالى كتبه لعلمه أن الإنسان سيعمل هذه الأعمال ويختارها، فيسرها لها، وليست الكتابة جبرا.. فحياة الإنسان واختياره وعمله كله قد سابق في علم الله.
انظر: "مجموع فتاوى العثيمين" (2/ 90) و(4/209).
ولذا جاء في رواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم حين سألوا عن إمكانية الاتكال على المكتوب: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى). البخاري (4666).
قال القرطبي رحمه الله: "فسنيسره لليسرى: أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها" ونيسره للعسرى: "أي نسهل طريقه له". انتهى باختصار من تفسير القرطبي" (20/ 83).
فهذا من تيسير الإتاحة والإعانة والإرشاد، لا من قبيل الجبر والإرغام. فالله عز وجل لما علم أن اختيار هذا العبد للخير أتاح له سبل هذه الاختيار، وهذا ليقدر على فعل ما يختاره، لأنّ مشيئة الله فوق مشيئته، فشاء له أن يحقق اختياره، ولو شاء لمنعه منه. وهذا من حكمته تعالى أن تمام الاختبار مع إعطاء المشيئة والاختيار، وهو مصداق قوله تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30].
ولذا جاء ذكر التيسير في الآية بعد قصد الإنسان للعمل، إشارة إلى أن حصول التيسير بسبب اختياره.
وعليه: فلا تعارض بين المكتوب والمأمور؛ لأن الله تعالى أمر بالعمل وأنزل التكاليف، وأعطى للإنسان الاختيار، وعلم في سابق علمه ما سيختار، فكتبه، والإنسان لا يدري ماذا كتب في كتابه شقي أم سعيد.
ثالثاً:
لا تعارض بين قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وما يحصل من بعض الخلق من عدم امتثالهم لعبودية الله عز وجل، وذلك أن معنى قوله (ليعبدون) أي : أن الحكمة الشرعية المحبوبة لرب العالمين من خلقه : هي تحقيق العبادة، وهذه الحكمة المحبوبة ، هي المقارنة لأمر الله ونهيه ، وقد يأمر الله العبد ، ولا يطيعه ، أو ينهاه ولا يمتثل لنهيه ، وبهذا تظهر الطاعة والمعصية ، والإيمان والكفر. قال الله تعالى : إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) [الإنسان: 3].
وأما في الحديث : ( كل ميسر لما خلق له ) : فإنما هو بيان لـ"قدر" الله جل جلاله، وأن الحكمة الكونية القدرية ، لا يخرج عنها أحد ، ولا يخالف ما كتب الله له .
ليعلم الطائع: أن ذلك إنما هو بفضل الله ومنه، وعلمه وكتابه، فلا يغتر.
وليعلم العاصي: أن ذلك بعلم الله، وكتابه، وخلقه، وقدره: فلا مغالب لله جل جلاله، ولا راد لحكمه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قول الله تبارك وتعالى مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون أي: ما أوجدتهم بعد العدم إلا لهذه الحكمة العظيمة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له، واللام في قوله: (ليعبدون) للتعليل، لكن هذا التعليل تعليل شرعي أي: لأجل أن يعبدوني، حيث أمرهم فيمتثلوا أمره، وليست اللام هنا تعليلاً قدرياً؛ لأنه لو كان تعليلاً قدرياً للزم أن يعبده جميع الجن والإنس، لكن اللام هنا لبيان الحكمة الشرعية في خلق الجن والإنس.
وإرادة الله عز وجل نوعان:
والله أعلم.