الحمد لله.
أولا:
استخلاف الإمام من ينوب عنه في إتمام الصلاة بالمصلين إذا عرض له حدث، هو أمر مشروع، كما سبق في جواب السؤال رقم: (83110).
وكان ينبغي على الإمام أن يقدم من يعلم أنه أعلم المصلين بأحكام الصلاة والإمامة، وراجع للفائدة جواب السؤال رقم: (324983).
ثانيا:
هذا الإمام الثاني: أخطأ بخروجه من صلاته الأولى، وهو مأموم، ليدخل في الصلاة إماما من جديد، ويكبر تكبيرة الإحرام؛ أخطأ في ذلك كله؛ فقد كان يكفي أن يغير نية الاقتداء إلى نية الإمامه، ولا يحتاج أن يخرج من صلاته؛ بل لا يجوز له أن يبطل صلاته الأولى؛ لأنه دخل في فريضة، ولا يحل له الخروج منها بغير عذر.
لكنه معذور في ذلك كله بجهله، فلا يأثم به.
ثم إن ما فعله أبطل صلاته الأولى بخروجه منها، ثم دخل في الصلاة الثانية دخولا صحيحا بتكبيرة الإحرام؛ فصحت صلاته بذلك، من غير إشكال، إن شاء الله.
قال الخطيب الشربيني، رحمه الله: " وَلَوْ كَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ تَكْبِيرَاتٍ، نَاوِيًا بِكُلٍّ مِنْهَا الِافْتِتَاحَ: دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِالْأَوْتَارِ، وَخَرَجَ مِنْهَا بِالْأَشْفَاعِ؛ لِأَنَّ مَنْ افْتَتَحَ صَلَاةً ثُمَّ نَوَى افْتِتَاحَ صَلَاةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. هَذَا إنْ لَمْ يَنْوِ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ خُرُوجًا، وَافْتِتَاحًا. وَإِلَّا؛ فَيَخْرُجُ بِالنِّيَّةِ، وَيَدْخُلُ بِالتَّكْبِيرِ. فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِغَيْرِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى شَيْئًا: لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ.
وَمَحَلُّ مَا ذُكِرَ: مَعَ الْعَمْدِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ.
أَمَّا مَعَ السَّهْوِ فَلَا بُطْلَانَ". انتهى من "مغني المحتاج" (1/345).
ثالثا:
بقي أن المأمومين كانوا قد دخلوا في الصلاة مع الإمام الأول، ثم أتموا صلاتهم مع الإمام الثاني، وقد كبر للإحرام بعدهم؛ وهذا لا يضر صلاته ولا صلاتهم، إن شاء الله؛ فإنه قد ورد في السنة ما يدل على صحة الصلاة في مثل هذه الصورة.
روى البخاري (683)، ومسلم (418) عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: " أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: أَنْ كَمَا أَنْتَ. فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" واستدل به الطبري… على جواز إنشاء القدوة في أثناء الصلاة، وعلى جواز تقدم إحرام المأموم على الإمام بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا أنه ظاهر الرواية " انتهى من "فتح الباري" (2 / 156).
وروى أبو داود (233) عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَصَلَّى بِهِمْ ".
وهذا الخبر في إسناده مقال، وقد وردت له شواهد وإن كان في كلها ضعف ولين؛ إلا أن بعض أهل العلم قد صححه لهذه الشواهد.
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" حديث صحيح، وصححه ابن حبان والبيهقي. وقال النووي والعراقي: إسناده صحيح " انتهى من "صحيح سنن أبي داود" (1/416).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" إن ذكر [ أي الإمام حدثه ] في أثناء صلاته فخرج، فتطهر ثم عاد، فإن الإمام لا يبني على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف، فإن من صلى بغير طهارة ناسيا فإن عليه الإعادة بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ )، وقوله: ( لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ ).
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم جوزوا البناء على ما مضى من صلاته محدثا ناسيا، وأشار إلى أنه قول مخالف للإجماع، فلا يعتد به.
وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناس لجنابته، فإن قدّر أن ذلك وقع فهو منسوخ؛ لإجماع الأمة على خلافه، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، فلم يبق إلا أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون صلى الله عليه وسلم لما رجع كبر للإحرام، وكبر الناس معه.
وعلى هذا التقدير، فلا يبقى في الحديث دلالة على صحة الصلاة خلف إمام صلى بالناس محدثا ناسيا لحدثه.
والثاني: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استأنف تكبيرة الإحرام، وبنى الناس خلفه على تكبيرهم الماضي.
وهذا هو الذي أشار اليه الشافعي، وجعله عمدة على صحة صلاة المتطهر خلف إمام صلى محدثا ناسيا لحدثه.
قال ابن عبد البر: وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب مالك. قال: ولا يصح عندي ذلك على أصول مالك؛ لأن مالكا لا يجيز للمأموم ان يكبر قبل إمامه، وإنما يجيزه الشافعي.
يشير إلى أنه على هذا التقدير يصير المأموم قد كبر منفردا، ثم انتقل إلى ائتمامه بالإمام، وهذا يجيزه الشافعي دون مالك.
وفيما قاله ابن عبد البر نظر؛ فإن المأموم إنما كبر مقتديا بإمام يصح الاقتداء به، ثم بطلت صلاته بذكره، فاستأنف صلاته، فلم يخرج المأموم عن كونه مقتديا بإمام يصح الاقتداء به ... " انتهى من "فتح الباري" (5 / 433 — 435).
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" عندما أقام المؤذن للصلاة ولم يجد الإمام موجودا استقبل المؤذن القبلة وكبر تكبيرة الإحرام، وكبر من خلفه من المصلىن، وشرعوا في الدعاء قبل فاتحة الكتاب ثم بعد ذلك دخل الإمام وجذب المؤذن من القبلة ودخل مكانه، وكبر مرة أخرى تكبيرة الإحرام، وكان هناك من المصلىن من كبر مرة أخرى مع الإمام، ومنهم من لم يكبر واستمر على التكبيرة الأولى مع المؤذن.
والسؤال: ما مدى شرعية جذب المؤذن ودخول غيره إماماً كما حدث؟
فأجاب رحمه الله تعالى: … لو أصر الإمام على أن يتقدم؛ فإنه يتقدم ويكبر تكبيرة الإحرام لنفسه، وأما المصلون فإنهم لا يكبرون تكبيرة الإحرام، لأنهم قد كبروها من قبل " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (5/385).
والله أعلم.