هل الرقة من صفات الله تعالى؟
الحمد لله.
أولا:
لم يرد في نصوص الكتاب والسنة إثبات صفة الرقة لله تعالى، وغاية ما ورد فيها من الآثار:
ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (4 / 37 – 38): عن أبي زكريا يحيى بن محمد الكيزداباذي، حدثنا عيسى بن محمد بن موسى الطريثيي، حدثنا أبو نصر، حدثنا مقاتل بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنّ الله عز وجل قد أَنزلَ عليَّ سورة لم يُنزِلها على أحدٍ من الأنبياء والرُّسُل قبل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبادي، فاتحة الكتاب جعلتُ نصفَها لي ونصفَها لهم، وآية بيني وبينهم. فإذا قال العبد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قال الله عز وجل: عَبدي دَعاني باسمَين رقيقين، أحدُهما أرقُ من الآخر، فالرحيم أَرقُّ من الرحمن، وكلاهما رقيقان … ).
وهذا إسناد ضعيف جدا، ففي إسناده:
مقاتل بن سليمان، وهو متهم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" مقاتل بن سليمان البلخي المفسر، هالك، كذبه وكيع والنسائي " انتهى من "المغني" (2/ 675).
والضحاك لم يلق ابن عباس.
وبعض رواته مجاهيل.
وقد روي هذا من قول ابن عباس رضي الله عنه، وهذا فيما رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (1/138): عن مُحَمَّد بْن مَرْوَانَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: ( الرَّحْمَنُ، وَهُوَ الرَّقِيقُ ، الرَّحِيمُ ، وَهُوَ الْعَاطِفُ عَلَى خَلْقِهِ بِالرِّزْقِ ، وَهُمَا اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ ).
وهذا إسناد ضعيف في نقل تفسير ابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" … وأورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( الرحمن والرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر )...
قلت: والحديث المذكور عن ابن عباس لا يثبت؛ لأنه من رواية الكلبي، عن أبي صالح عنه، والكلبي متروك الحديث " انتهى. "فتح الباري" (13/359).
وروى الطبري في "التفسير" (1/128)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (1/26): عن مُحَمَّد بْن الْعَلاءِ- يَعْنِي أَبَا كُرَيْبٍ الهمداني-، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ- يَعْنِي الزَّيَّاتَ-، حدثنا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَقُولُ: الرَّحِيمِ: الرَّقِيقُ الرَّفِيقُ لِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ، الْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعَنِّفَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ ).
وهذا لفظه عند ابن أبي حاتم.
وهذا إسناد ضعيف أيضا، فبشر بن عمارة فيه ضعف.
قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى:
" بشر بن عمارة، عن: أبي رَوْق والأحوص، روى عنه: محمّد بن الصلت: تعرف وتنكر " انتهى من "التاريخ الكبير" (2/80).
وقال ابن حبان رحمه الله تعالى:
" كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، ولم يكن يعلم الحديث ولا صناعته " انتهى من "المجروحين" (1/215).
والراوي عنه، عثمان بن سعيد: لم نقف على من وثقه.
وروى البيهقي في "الأسماء والصفات" (1 / 138)، قال: أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ الْحَسَنِ السَّقَطِيُّ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنِ الْهُذَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَمَّنْ يَرْوِي تَفْسِيرَهُ عَنْهُ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ: ( الرَّحْمَنُ ، الرَّحِيمُ: اسْمَانِ رَقِيقَانِ، أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ؛ الرَّحْمَنُ يَعْنِي الْمُتَرَحِّمَ ، الرَّحِيمُ يَعْنِي الْمُتَعَطِّفَ بِالرَّحْمَةِ عَلَى خَلْقِهِ ).
وهذا إسناد واه، ففيه مقاتل بن سليمان، وسبق بيان أنه متروك، والإسناد إليه مسلسل بالمجاهيل.
ثانيا:
من الثابت أن صفات الله تعالى توقيفية؛ فيقتصر فيها على ما صح به الخبر، كما نص على هذا أئمة العلم، كقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" ليس في الاعتقاد كله في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله، أو صح عن رسول صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه " انتهى من "جامع بيان العلم وفضله" (2 / 943).
وصفة الرقة لم ترد في خبر صحيح، وغاية ما ورد فيها ما نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه، وقد تفردت أسانيد واهية بنسبة هذا القول له، ولم يرد شيء من ذلك عن تلاميذه المعتبرين كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ولا في التفاسير الشهيرة عنه كتفسير علي ابن أبي طلحة.
على أن هذه الروايات، لو قدر أنها صحيحة، لم تكن دليلا على إثبات صفة لله هي "الرقة"؛ فإن ابن عباس لم يصف الرب بذلك، ولم يذكر أحد من أهل العلم المصنفين في الأسماء والصفات "الرقة" فيما جمع من صفات الله الحسنى؛ إنما مراد هذا الكلام، إن صح عنه: أن أحدهما أبلغ في الدلالة على "رحمة الله" من الآخر، على اختلاف بين أهل العلم: أيهما أبلغ وأوسع رحمة.
وقد قال البيهقي في "الأسماء والصفات (1/139): ": سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمُفَسِّرَ يَحْكِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا وَهُمٌ مِنَ الرَّاوِي ، لِأَنَّ الرِّقَّةَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عز وجل فِي شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا هُمَا اسْمَانِ رَفِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرْفَقُ مِنَ الْآخَرِ ، وَالرِّفْقُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ" انتهى.
وقد نقل ذلك واستحسنه: الشيخ د. سعد ندا، في مقال له في "مجلة الجامعة الإسلامية" بالمدينة المنورة (19/325)، ونقله أيضا ابن كثير في تفسيره (1/125).
والحسين بن الفضل هذا (ت:282هـ)، صاحب يحي بن عبد العزيز الكناني، عالم بالتفسير وأصول الكلام، كما قال عنه "السمعاني" قال عنه الذهبي: " الحسين بن الفضل بن عمير أبو علي البجلي؛ العلامة، المفسر، الإمام، اللغوي، المحدث، أبو علي البجلي الكوفي، ثم النيسابوري، عالم عصره". ينظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (13/414-416)، "لسان الميزان" (2/307-308).
وقال الشيخ علوي السقاف، حفظه الله، في كتابه: "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة" (ص30): " القاعدة العشرون: صفات الله عز وجل لا يقاس عليها. فلا يقاس السخاءُ على الجود، ولا الجَلَدُ على القوة، ولا الاستطاعةُ على القدرة، ولا الرقة على الرحمة والرأفة، ولا المعرفة على العلم … وهكذا؛ لأن صفات الله عز وجل لا يتجاوز فيها التوقيف؛ كما مر في القاعدة الثالثة". انتهى.
وفي "سلسلة الأحاديث الموضوعة" للشيخ الألباني، رحمه الله، برقم (6517 )، حديث:
(من حمل طرفة من السوق إلى ولده، كان كحامل صدقة، حتى يضعها فيهم، وليبدأ بالاناث قبل الذكور، فإن الله رق للإناث ... ) ، ثم قال عنه:
" وبالجملة، فليس للحديث من المتابعات والشواهد ما يقويه، كيف ولوائح الوضع ظاهرة عليه، وفيه نسبة الرقة إلى الله تعالى! وهذا مما لم يرد في الأحاديث المعروفة في صفات الله عزوجل " انتهى من "السلسلة الضعيفة" (14/47).
والحاصل:
أن الأثر الوارد عن ابن عباس، وفيه ذكر "الرقة": لم يثبت عنه. ولم نقف على أحد من أهل العلم والسنة أثبت هذه الصفة لله عز وجل.
والله أعلم.