أعمل في شركة لإدخال البيانات، ومطلوب مني يوميا عدد ورق معين تارجت، مثلا ٢٠٠، ويصر المدير على ذلك، في بعض الأيام أحقق أعلى من هذا العدد المعين بكثير، مثلا + ٣٠٠ ورقة، وفي أيام أخرى لا أحقق هذا العدد، لذلك أحتفظ بعدد صغير من الورق مما حققته في الأيام ذوات التحقيق العالي، وأضعه في الأيام التي حققت فيها عددا قليلا من الورق؛ حتى أحافظ على العدد المعين المطلوب مني، حتى لا يشتكي مديري من عدم تحقيقي للتارجت في الأيام التي لا أحقق فيها التارجت، فهل هذا من الغش؟ وهل مالي حرام؟ وإذا نعم ما كفارته؟
الحمد لله.
أولا:
الأصل وجوب الوفاء بالعقد، وتنفيذ ما اتفق فيه العامل مع رب العمل؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة/1، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم) رواه أبو داود (3594) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
فإذا تم الاتفاق على إدخال بيانات عدد من الأوراق يوميا، وأنه بدون ذلك لا يستحق الموظف أجره كاملا، أو لا يستحق عمولة أو علاوة مثلا، فهما على ما اتفقا.
والموظف أجير خاص، وهو من قُدّر نفعه بالزمن، والأصل أنه إذا حضر وسلم نفسه استحق الأجرة، واشتراط أن ينجز عملا بقدر معين في هذا الزمن، حصل فيه خلاف، والراجح جواز ذلك.
قال الشيخ أبو عمر الدبيان: "فإن جمع بين الزمن والعمل، كأن يقول: خط هذا الثوب في هذا اليوم، فقد اختلف العلماء في صحة الإجارة على قولين:
القول الأول: لا يصح الجمع بين تقدير المدة والعمل، فإن جمع بينهما فسد العقد. وهذا قول أبي حنيفة، وأصح الوجهين عند الشافعية، والمشهور عند الحنابلة...
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه لا يصح الجمع إذا كان الزمان أنقص أو كان مساويًا للعمل، فإن كان الزمان أوسع من العمل، فقال ابن عبد السلام: يجوز اتفاقًا.
وقال ابن رشد: بل تفسد على المشهور.
القول الثالث: يصح الجمع بين المدة والعمل، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهو قول في مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، ورواية في مذهب الحنابلة.
* دليل من قال بالصحة:
أن المعقود عليه هو العمل، وهو معلوم، وإنما ذكر الوقت للتعجيل لا لتعليق العقد به، فكأنه استأجره للعمل على أن يفرغ منه في أسرع الأوقات، وعلى هذا فإنه إذا فرغ العامل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها؛ لأنه قام بما عليه قبل مدته، فلم يلزمه شيء آخر، وإن مضت المدة قبل فراغ العمل فعليه أن يعمله، ولو بعد انتهائها؛ لأنه المعقود عليه.
* الراجح:
القول بالصحة هو القول الراجح، وعليه عمل الناس اليوم، والله أعلم" انتهى من المعاملات المالية (9/ 283).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الفرق بين الخاص والمشترك:
أن ما قدِّر نفعه بالزمن فهو خاص، وما قُدِّر بالعمل فهو مشترك.
فرق آخر: أن الأجير الخاص منفعته مملوكة مدة الأجرة، والأجير المشترك منفعته غير مملوكة.
هل يمكن أن يجتمعا، بمعنى أن أستخدم هذا الرجل عندي على عمل معين، أقول له مثلاً: أنا أريد أن أستأجرك لمدة خمسة أيام، تخيط لي كذا وكذا ثوباً؟
الجواب: لا؛ لأن الخاص يقضي على العام، ما دمت قد قدَّرت مدته بالزمن فهو خاص، وإن كنت قد عيَّنت له عملاً معيناً، وتكون الإجارة فاسدة، هذا هو المذهب.
والصواب: أنه يجوز الجمع بين مدة العمل والعمل؛ لأن فيه مصلحة، ويستعمل هذا بعض الناس في المقاولات فيقول: تنفذ هذا البيت في خلال سنة، فإن تمت السنة فعليك لكل يوم خصم كذا وكذا، فالصحيح أنه جائز بشرط أن تكون المدة المقدرة معقولة، بحيث إن هذا البيت يبنى في هذه المدة، أما إذا كان يبنى في سنة وقال: في ستة شهور فإن هذا لا يجوز؛ لأنه غرر" انتهى من "الشرح الممتع" (10/ 77).
ثانيا:
ليس للموظف تأخير أوراق من اليوم للغد مثلا، لتحقيق هذا "التارجت"، لما فيه من تعطيل العمل، أو الإضرار بأصحاب الأوراق، وما فيه من الكذب أنه فعل كذا في الغد، والواقع أنه لم يفعله كله في هذا اليوم.
وإذا كان عدم تحصيل العدد المطلوب في يوم ليس ناتجا عن تقصير الموظف، فعليه أن يبين ذلك لصاحب العمل، وأن الأيام تتفاوت، وأن الحل أن يكون "التارجت" أسبوعيا، ليتم تعويض النقص الذي في يوم، فيما يليه أو يسبقه من أيام.
فإن أبى صاحب العمل ذلك، وكان تأخير إدخال بعض الأوراق إلى الغد لا يترتب عليه تعطيل للعمل ولا إضرار بأحد، فالذي يظهر أنه يجوز له ذلك، ويعفى عما فيه من الكذب؛ لأنه كذب لا يترتب عليه مضرة على أحد، ألجأ إليه تعسف رب العمل.
قال النووي رحمه الله: "اعلم أن الكذب، وإن كان أصله محرما، فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب:"الأذكار".
ومختصر ذلك: أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب، يحرم الكذب فيه. وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب.
ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا، كان الكذب واجبا، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وأخفي ماله، وسئل إنسان عنه: وجب الكذب بإخفائه. وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها، وجب الكذب بإخفائها.
والأحوط في هذا كله أن يوري. ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا، ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب.
ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الحال" انتهى من "رياض الصالحين"، ص 439
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/11) في بيان حكم الكذب: " قال ابن الجوزي: وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب: فهو مباح، إن كان ذلك المقصود مباحا، وإن كان واجبا فهو واجب، وهو مراد الأصحاب.
ومرادهم هنا: لغير حاجة وضرورة؛ فإنه يجب الكذب إذا كان فيه عصمة مسلم من القتل ".
إلى أن قال: " ومهما أمكن المعاريض حرُم، وهو ظاهر كلام غير واحد، وصرح به آخرون لعدم الحاجة إذاً ... " انتهى.
والله أعلم.