الحمد لله.
الاصطفاء هو الاجتباء والاختيار .
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "الاصْطِفَاءُ: تناولُ صَفْوِ الشيءِ، كما أنّ الاختيار: تناول خيره، والاجتباء: تناول جِبايته.
واصْطِفَاءُ اللهِ بعضَ عباده: قد يكون بإيجاده تعالى إيّاه صَافِياً عن الشّوب الموجود في غيره، وقد يكون باختياره، وبحكمه وإن لم يتعرّ ذلك من الأوّل، قال تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج/ 75] ،
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) [آل عمران/ 33] ،
(اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) [آل عمران/ 42] ،
(اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف/ 144] ،
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) [ص/ 47] ،
واصْطَفَيْتُ كذا على كذا، أي: اخترت. (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) [الصافات/ 153] ، (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) [النمل/ 59] ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر/ 32] ، والصَّفِيُّ والصَّفِيَّةُ: ما يَصْطَفِيهِ الرّئيسُ لنفسه" انتهى من "مفردات القرآن"، ص488
وقد جاء الاصطفاء في القرآن الكريم على ثلاثة أنحاء:
1-اصفاء الدين والشريعة، وذلك في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) البقرة/132
2-اصطفاء الأنبياء والرسل والصالحين ، وهو كثير في القرآن، كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران/33.
وقوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) البقرة/130.
وقوله: (قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الأعراف/144.
وقوله: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) آل عمران/42.
ومريم صديقة صالحة، وليست نبية، في قول الجمهور.
3-اصطفاء جميع المسلمين المؤمنين بالكتاب العظيم، وذلك في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر/32
قال ابن الجوزي رحمه الله: " وقد روي عن الحسن أنه قال: الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي قد استوت حسناته وسيِّئاته، والسابق: من رَجَحت حسناتُه" انتهى من زاد المسير (3/ 512).
وقال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب، الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع، فقال: فمنهم ظالم لنفسه وهو: المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. ومنهم مقتصد وهو: المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله وهو: الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات" انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/ 546).
وعلى هذا؛ فإن الكافر لا يكون من أهل الاصطفاء، ويجوز أن يستعمل فيه لفظ التفضيل، لكن مقيدا بوجه تفضيله؛ كأن يقال: فضله بالصحة، أو بالمال، أو بحسن الصورة، ونحو ذلك.
فالله فضل بني آدم كلهم، بحسن الصورة، ونعمة العقل. قال تعالى: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) الإسراء/70. وبنو آدم منهم المؤمن والكافر.
وفضل الله بعض الناس على بعض في أرزاقهم، كما قال: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) النحل/71.
وقال سبحانه: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الزخرف/32
والحاصل:
أن الكافر ليس من أهل "الاصطفاء" ولا "الاختيار" ولا "الاجتباء"، بوجه من الوجوه.
وإن كان قد فضل على بعض خلق الله في صورته وجسمه، أو في رزقه، أو نحو ذلك مما يرزق الله عباده في الدنيا؛ فيجوز أن يقول هو من أهل "التفضيل"، أو أن الله تعالى قد فضله؛ لكن لا يقال ذلك بلفظ التفضيل مطلقا، ولا أنه من أهل "الفضل" أو "التفضيل" مطلقا؛ بل مقيدا بما فضل به؛ لئلا يوهم فضيلته الدينية، أو الخلقية، أو أنه أفضل في نفسه من عباد الله المؤمنين؛ والأمر ليس كذلك.
والله أعلم.