ما تفسير قوله تعالى: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)؟

30-07-2024

السؤال 521283

قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يدري ما يفعل به في الدنيا، فكيف ذلك، وهو معصوم من الشرك، ومن المفترض أن يعلم إنه لن يموت على الكفر؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الأنبياء معصومون في التبليغ عن الله تعالى، فلا يكون خبرهم إلا حقا، ولا يقع الغلط في تبليغهم، ومعصومون من الكبائر كالزنا والسرقة، ومعصومون من الصغائر التي تدل على الخسة، كسرقة لقمة، أو التطفيف بحبة.

وقد يقع منهم الخطأ من الصغائر التي لا تدل على الخسة، لكن لا يقرون على ذلك، بل يتداركهم الله تعالى وينبههم عليه فيعودون عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف ... وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 319).

وقال السفاريني رحمه الله: " قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات، قال: وقد ذهب بعضهم إلى عصمته من مواقعة المكروه قصدا. انتهى.

وقال العلامة السعد التفتازاني: وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل:

وهو أنهم معصومون عن الكفر، قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، خلافا للحشوية، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع أو العقل.

وأما سهوا فجوزه الأكثرون.

قال: وأما الصغائر: فتجوز عمدا عند الجمهور، خلافا للجبائي وأتباعه.

وتجوز سهوا بالاتفاق، إلا ما يدل على الخِسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة.

لكن المحققين شرطوا: أن يُنهوا عنه، فينتهوا منه" انتهى من "لوامع الأنوار البهية" (2/ 305).

والأنبياء معصومون من الشرك والكفر قبل البعثة، كما بينا في جواب السؤال رقم: (317529 ).

ثانيا:

أما قول الله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الأحقاف/9.

فالمقصود بما يفعل به: أي في الدنيا، هل سيخرجه قومه أم لا، وإذا كان سيهاجر فمتى يهاجر، وما يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش، أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون؟

فمقصود الآية: بيان أن الرسول عبدٌ لله، لا يعلم الغيب، ولا يتصرف إلا بالوحي من الله، ولا علاقة للآية بأمر الكفر أو المعاصي والذنوب، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم منه بالإجماع، كما تقدم.

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (16/186): " قال النحاس: ... إنه، من أول السورة إلى هذا الموضع، خطاب للمشركين، واحتجاج عليهم، وتوبيخ لهم؛ فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين، كما كان قبله وما بعده.

ومحال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان، واتبعه وأطاعه: فهو في الجنة، فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة.

وليس يجوز أن يقول لهم: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون: كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خَفْضٍ ودَعة، أم إلى عذاب وعقاب؟

والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدثنا وكيع قال حدثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن: ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ): في الدنيا.

قال أبو جعفر[=النحاس]: وهذا أصح قول وأحسنه؛ لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة، ورخص وغلاء، وغنى وفقر.

ومثله: ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير) [الأعراف: 188].

وذكر الواحدي وغيره، عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء، فقصها على أصحابه، فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم" أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا.

ثم قال: ( إنما هو شيء رأيته في منامي، ما أتبع إلا ما يوحى إلي )؛ أي لم يوح إلي إلا ما أخبرتكم به...

واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجَلون بالعذاب أم تؤخَّرون.

قلت: وهو معنى قول الحسن والسدي وغيرهما.

قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا. أما في الآخرة؛ فمعاذ الله! قد عَلم أنه في الجنة حين أُخِذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال ما أدري ما يفعل بي في الدنيا؛ أأُخرج كما أُخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قتلت الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يفعل بكم، أأمتي المصدقة، أم المكذبة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفا، أو مخسوف بها خسفا، ثم نزلت: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) [التوبة: 33]. يقول: سيظهر دينُه على الأديان. ثم قال في أمته: ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [الأنفال: 33] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته، ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله" انتهى.

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (7 276): "وقال أبو بكر الهذلي، عن الحسن البصري في قوله: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم قال: أما في الآخرة فمعاذ الله، قد علم أنه في الجنة، ولكن قال: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟

وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره.

ولا شك أن هذا هو اللائق به، صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا: أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون فيستأصلون بكفرهم" انتهى.

وقال السعدي في تفسيره، ص 779: " وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي: لست إلا بشرا؛ ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى هو المتصرف بي وبكم، الحاكم علي وعليكم، ولست الآتي بالشيء من عندي، وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ فإن قبلتم رسالتي، وأجبتم دعوتي فهو حظكم ونصيبكم في الدنيا والآخرة، وإن رددتم ذلك، علي فحسابكم على الله وقد أنذرتكم؛ ومن أنذر، فقد أعذر" انتهى.

والحاصل: أن معنى الآية التسليم والتفويض إلى الله، وإظهار العبودية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يدري ما يحصل له في الدنيا وما يحصل له قومه، ولا مدخل في الآية لمسألة الذنوب والمعاصي، فضلا عن الكفر والشرك، فلم يقل: وما أدري هل أثبت على الإيمان أو لا أثبت، وحاشاه أن يقول ذلك صلى الله عليه وسلم.

والحذر الحذر من النظر في شبهات المضلين قبل تحصيل العلم النافع الذي ترد به الشبهات.

والله أعلم.

تفسير القرآن
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب