أسئلة متعددة لتائب من عمله في قناة فضائية
بخصوص عملي في مكتبة قناة سي إن بي سي عربية ، وأنا - إن شاء الله - على وشك ترك هذا العمل ، وأرجو من الله أن يتسع صدركم للسؤال وهو أنه كان راتبي 6000 درهم إماراتي ، وادخرت منه عشرين ألف درهم في خلال عام ونصف هي فترة عملي .
1. هل يُعتبر هذا المال مختلطاً حيث القناة كانت اقتصادية إخبارية في المقام الأول ، كما كانت تذيع برامج دينية مثل " المال في الإسلام " و " رياض الذِّكر " ، ولكن تبث برامج عن السينما والفنانين وظهور المذيعات المتبرجات والموسيقى التصويرية ...إلخ ، مع العلم أنها كانت لا تذيع أفلاماً ولا مسلسلات .
2. مساعدتي في كيفية تحديد مقدار المال الحلال إن كان المال مختلطاً .
3. كل الذي قبضته من هذا العمل خلال عام ونصف هو 108,000 درهم وادخرت منهم عشرين ألف درهم ، والباقي سكن ، وسيارة ، ومصاريف معيشة ، فلو كان المال حراماً هل عليَّ أن أنفق العشرين ألف درهم في مصالح المسلمين ( كمساعدة أخي على الزواج ) وأن ادَّخر من عملي الجديد باقي ال 108,000 درهم لأخرجهم في مصالح المسلمين حتى أطهر نفسي من ذلك العمل في هذه القناة ؟
3. هل يجوز لي الاحتفاظ بالعشرين ألف درهم لشراء شقة لي في بلدي ، حيث أسكن في شقة ليست ملكي ، بل هي ملك أمي ولي أربعة إخوة ؟ .
4. هل عليَّ زكاة في العشرين ألف درهم ؟ .
5. هل سينطبق عليَّ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (من سنَّ سنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها) من حيث إن كل من يشاهد القناة ويشاهد المذيعات المتبرجات أو نساء يظهرن في الأخبار الإخبارية والاقتصادية يكون عليَّ وزر ؟ وكيف التوبة منه ؟ .
الجواب
الحمد لله.
أولاً :
نحمد الله تعالى أن وفقك للتوبة ، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منك ويزيدك هدى .
ثانياً :
لا شك أن القنوات الفضائية الإخبارية منها وغير الإخبارية فيها من المحرمات الشيء
الكثير ، كالاختلاط بين الرجال والنساء ، وتبرج النساء الفاضح ، والموسيقى ،
والدعايات المحرمة ، وذِكر الفوائد الربوية وأخبار البنوك والشركات المحرَّمة ،
والإعلان عن الأفلام والأزياء والأغاني وغيرها من المحرمات ، مع ما فيها من التضليل
في الجانب العقائدي والأخلاقي .
لذا فإنه لا يجوز العمل في هذه القنوات لما فيها من منكرات واضحة بيِّنة ، ولعل
الموظفين بهذه القنوات على علم بخفايا أكثر مما يظهر للناس من محرمات ومنكرات .
وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من اكتساب المال الحرام .
فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ
فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ،
وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ) رواه الترمذي ( 2417 ) ، وصححه الألباني
في "صحيح الترمذي" .
وليعلم المسلم أنه يجب عليه البحث عن الرزق الحلال ، وقد تكفل الله تعالى برزق
الناس ، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها .
قال الله تعالى : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
) هود/6 .
وقال تعالى : ( هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي
مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ ) الملك/15
.
قال ابن كثير رحمه الله :
أي : فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها ، في أنواع
المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئاً إلا أن ييسره الله لكم .
" تفسير القرآن العظيم " ( 8 / 179 ) .
ثالثاً :
إذا كنت لا تعلم تحريم هذا العمل ، أو سألت من تثق في دينه وعلمه فأفتاك بجواز
العمل في هذه القناة ، فإن ما أخذته من راتب فهو حلال لك ، ولا حرج عليك من
الانتفاع به ، بشرط أن تترك هذا العمل فورا ، وتكف عن معصية الله تعالى ، فإن الله
تعالى قال عمن كان يتعامل بالربا ثم انتهى عنه لما نزل تحريمه : (فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)
البقرة/275 .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء - لمن عمل في بنك وهو جاهل بحكم العمل - :
إذا كان الواقع كما ذكرتَ بعد أن أُخبرت أنه لا يجوز العمل في بنك : فلا حرج عليك
فيما قبضته من البنك مقابل عملك لديه مدة الأشهر المذكورة ، ولا يلزمك التصدق به ،
وتكفي التوبة عن ذلك ، عفا الله عنا وعنك.
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 402 ) .
أما إذا كنت تعلم أن العمل في هذه القناة محرم ، ومع ذلك عملت فيها ، فالمال
المكتسب منها حرام ، لكن التخلص منه ووجوب إنفاقه في أوجه البر والخير يكون حسب
التفصيل الآتي :
1- عملك ليس حراما بنسبة مائة في المائة ، وإنما هو مختلط ، فيه الحلال ، وفيه
الحرام ، فالبرامج الدينية التي ذكرتها ، أو الإخبارية أو الاقتصادية التي لا تشجع
على الربا ولا على المعاملات المحرمة ، فهذه البرامج ليست محرمة ، وإن كان يدخل
فيها شيء من الحرام بسبب المنكرات التي فيها ، كالموسيقى أو تبرج النساء .
أما برامج الغناء أو الموسيقى أو الكلام عن السينما ونحو ذلك ، فهذه برامج محرمة .
ولا يلزمك التخلص إلا من المال الذي يقابل العمل المحرم ، ويمكن تحديد ذلك عن طريق
ساعات الدوام ، فتنظر كم من هذه الساعات يكون في عمل مباح ، وكم منها يكون في برامج
محرمة ؟
فإن أعياك الأمر ولم تستطع تحديده لتداخل الحرام مع الحلال ، فيلزمك التخلص من نصف
المال ، باعتبار اقتسام الوقت نصفين بين العمل المباح والعمل المحرم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما : جعل ذلك نصفين" انتهى
.
" مجموع الفتاوى " ( 29 / 307 ) .
2- ما أنفقته من هذا المال الحرام لا يلزمك تقديره ولا التصدق به ، وإنما يلزمك
التصدق بما هو موجود قد بقي مدخرا معك من هذا المال .
فما أنفقته في السكن ومصاريف المعيشة فهو مما عفا الله عنه ، فلا يلزمك أن تتصدق
ببدله ، ما دمت قد تبت وأقلعت عن العمل المحرم .
وأما السيارة ، فإن كنت محتاجاً إليها ، وتقع في مشقة شديدة بدونها ، فنرجو ألا
يكون عليك حرج في إبقائها والانتفاع بها ، أما إذا كنت مستغنياً عنها ولست محتاجا
لها حاجة ماسة فإما أن تبيعها وتتصدق بثمنها ، وإما أن تبقيها وتتصدق بثمنها وتكون
السيارة حلالاً لك .
3- لا مانع من إعطاء أخيك من هذا المال إذا كان محتاجاً لإعانته على الزواج ، كما
يجوز لك أن تأخذ من هذا المال لنفسك إذا كنت محتاجاً ، ولو كان جزءً يكون لك رأس
مال تستعمله في الاتجار بعمل مباح .
قال النووي رحمه الله :
قال الغزالي : وإذا دفعه – أي : المال المحرم بعد التوبة - إلى الفقير : لا يكون
حراماً على الفقير , بل يكون حلالاً طيباً , وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا
كان فقيراً ؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء : فالوصف موجود فيهم , بل هم أولى من يتصدق
عليه , وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته ؛ لأنه أيضا فقير .
" المجموع " ( 9 / 351 ) .
وقد بسط ابن القيم رحمه الله الكلام على هذه المسألة في " زاد المعاد " ( 5 / 778 )
وقرر أن طريق التخلص من هذا المال وتمام التوبة إنما يكون : " بالتصدق به ، فإن كان
محتاجاً إليه : فله أن يأخذ قدر حاجته ، ويتصدق بالباقي " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فإن تابت هذه البغي ، وهذا الخمَّار، وكانوا فقراء : جاز أن يُصرف إليهم من هذا
المال قدر حاجتهم ، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل أُعطي ما يكون
له رأس مال .
" مجموع الفتاوى " ( 29 / 308 ) .
وينظر : جواب السؤال (78289)
.
وأما الاحتفاظ بالعشرين ألف الباقية معك لشراء شقة ، فلا يجوز الاحتفاظ بالمال
الحرام من أجل ذلك ، ما دمت تجد شقة تسكن فيها ، ولو كان ذلك بالإيجار .
فعليك تقدير الحرام من هذا المال المتبقي – حسب التفصيل السابق- والتصدق به .
وأما زكاة العشرين ألف درهم ، فما كان منها حراما ستتخلص منه فلا زكاة فيه ، لأنه
ليس ملكا لك .
قال النووي رحمه الله :
"قال الغزالي : إذا لم يكن في يده إلا مال حرام محض : فلا حج عليه ، ولا زكاة ، ولا
تلزمه كفارة مالية , فإن كان مال شبهة فليس بحرام محض : لزمه الحج إن أبقاه في يده
؛ لأنه محكوم بأنه ملكه , وكذا الباقي" انتهى .
" المجموع " ( 9 / 352 ، 353 ) .
وأما دخولك في حديث : (من سن سنة سيئة ...) فلا تدخل فيه إذا تبت واجتهدت في إصلاح
العمل ، قال الله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) طه/82 .
وقال تعالى : (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ
يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة/39 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ
لَهُ) رواه ابن ماجه (4250) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه
.
والله أعلم .