الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ) وفي رواية لمسلم (52) ِ: ( جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً ، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ )
وقال البخاري رحمه الله : " سُمِّيَتْ الْيَمَنَ لِأَنَّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالشَّأْمَ لِأَنَّهَا عَنْ يَسَارِ الْكَعْبَةِ "
والمقصود بأهل اليمن في هذا
الحديث أهل الإيمان والصلاح والتقوى من أهل اليمن ؛ ومن قال إنما عنى بذلك أهل مكة
والمدينة ، أو عنى بذلك أهل البيت ، فقوله مخالف لظاهر الحديث ، كما يدل عليه قوله
( أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ ) ، ( جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ ) والواجب الأخذ
بالظاهر ، ولا يجوز العدول عنه إلا ببينة ظاهرة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد بِهِ : فَقِيلَ مَعْنَاهُ نِسْبَة الْإِيمَان إِلَى
مَكَّة لِأَنَّ مَبْدَأَهُ مِنْهَا , وَمَكَّة يَمَانِيَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَدِينَة ، وَقِيلَ : الْمُرَاد نِسْبَة الْإِيمَان إِلَى مَكَّة وَالْمَدِينَة
وَهُمَا يَمَانِيَّتَانِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّامِ ، بِنَاء عَلَى أَنَّ هَذِهِ
الْمَقَالَة صَدَرَتْ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
حِينَئِذٍ بِتَبُوك , وَيُؤَيِّده قَوْله فِي حَدِيث جَابِر عِنْد مُسْلِم "
وَالْإِيمَان فِي أَهْل الْحِجَاز " , وَقِيلَ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْأَنْصَار
لِأَنَّ أَصْلهمْ مِنْ الْيَمَن ، وَنُسِبَ الْإِيمَان إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا الْأَصْل فِي نَصْر الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَكَى جَمِيع ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَة فِي " غَرِيب الْحَدِيث " لَهُ .
وَتَعَقَّبَهُ اِبْن الصَّلَاح بِأَنَّهُ لَا مَانِع مِنْ إِجْرَاء الْكَلَام عَلَى
ظَاهِره , وَأَنَّ الْمُرَاد تَفْضِيل أَهْل الْيَمَن عَلَى غَيْرهمْ مِنْ أَهْل
الْمَشْرِق , وَالسَّبَب فِي ذَلِكَ إِذْعَانهمْ إِلَى الْإِيمَان مِنْ غَيْر
كَبِير مَشَقَّة عَلَى الْمُسْلِمِينَ , بِخِلَافِ أَهْل الْمَشْرِق وَغَيْرهمْ ,
وَمَنْ اِتَّصَفَ بِشَيْءٍ وَقَوِيَ قِيَامه بِهِ نُسِبَ إِلَيْهِ ، إِشْعَارًا
بِكَمَالِ حَاله فِيهِ , وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ نَفْي الْإِيمَان عَنْ غَيْرهمْ
, وَفِي أَلْفَاظه أَيْضًا مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَقْوَامًا
بِأَعْيَانِهِمْ فَأَشَارَ إِلَى مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ لَا إِلَى بَلَد مُعَيَّن ,
لِقَوْلِهِ فِي بَعْض طُرُقه فِي الصَّحِيح " أَتَاكُمْ أَهْل الْيَمَن , هُمْ
أَلْيَن قُلُوبًا وَأَرَقّ أَفْئِدَة الْإِيمَان يَمَان وَالْحِكْمَة يَمَانِيَة ,
وَرَأْس الْكُفْر قِبَل الْمَشْرِق " وَلَا مَانِع مِنْ إِجْرَاء الْكَلَام عَلَى
ظَاهِره وَحَمْل أَهْل الْيَمَن عَلَى حَقِيقَته .
ثُمَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ الْمَوْجُود مِنْهُمْ حِينَئِذٍ لَا كُلّ أَهْل الْيَمَن
فِي كُلّ زَمَان , فَإِنَّ اللَّفْظ لَا يَقْتَضِيه .
قَالَ : وَالْمُرَاد بِالْفِقْهِ الْفَهْم فِي الدِّين , وَالْمُرَاد بِالْحِكْمَةِ
الْعِلْم الْمُشْتَمِل عَلَى الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ " .
انتهى من " فتح الباري " (6/532) .
وقال النووي رحمه الله :
" الْحِكْمَة عِبَارَة عَنْ الْعِلْم الْمُتَّصِف بِالْأَحْكَامِ , الْمُشْتَمِل
عَلَى الْمَعْرِفَة بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , الْمَصْحُوب بِنَفَاذِ
الْبَصِيرَة وَتَهْذِيب النَّفْس , وَتَحْقِيق الْحَقّ , وَالْعَمَل بِهِ ,
وَالصَّدّ عَنْ اِتِّبَاع الْهَوَى وَالْبَاطِل . وَالْحَكِيمُ مَنْ لَهُ ذَلِكَ ،
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن دُرَيْدٍ : كُلُّ كَلِمَة وَعَظَتْك , وَزَجَرَتْك , أَوْ
دَعَتْك إِلَى مَكْرُمَة , أَوْ نَهَتْك عَنْ قَبِيح , فَهِيَ حِكْمَة وَحُكْم "
انتهى من " شرح صحيح مسلم " (2/33) .
رابعا :
ما يذكر من نسبة هذا الكلام :( أنا من اليمن ) أو ( وأنا يمان ) للنبي صلى الله
عليه وسلم لا أصل له فيما نعلم ، ولم نطلع عليه في كتب أهل الحديث ، وإنما الثابت
ما رواه البخاري (2486) ومسلم (2500) عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا
فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ
عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ
بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ ) .
قال الحافظ :
" أَيْ هُمْ مُتَّصِلُونَ بِي , وَتُسَمَّى " مِنْ " هَذِهِ الِاتِّصَالِيَّةِ
كَقَوْلِهِ : " لَسْت مِنْ دَد " , وَقِيلَ : الْمُرَادُ فَعَلُوا فِعْلِي فِي
هَذِهِ الْمُوَاسَاةِ . وَقَالَ النَّوَوِيّ : مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَة فِي
اِتِّحَادِ طَرِيقِهِمَا وَاتِّفَاقهمَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى " انتهى .
خامسا :
اليمن يشمل جنوب الجزيرة العربية .
قال ياقوت الحموي رحمه الله :
" قال الأصمعي: اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران ، ثم يلتوي على بحر
العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان ، فينقطع من بينونة ، وبينونة بين عمان
والبحرين ، وليست بينونة من اليمن .
وقيل: حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء وما قاربها إلى حضرموت والشحر
وعمان إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود واليمن تجمع ذلك كله " انتهى من
"معجم البلدان" (5 /447) .
وقال الزبير بن بكار رحمه الله : " حضرموت آخر اليمن " انتهى من "الفتح" (6/171) .
فهذا يدل على أن حدود اليمين تشمل جنوب الجزيرة العربية كله .
وقد روى البخاري (4311)
ومسلم (2901) عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قال قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَنْ تَكُونَ أَوْ لَنْ تَقُومَ
السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ قَبْلَهَا عَشْرُ آيَاتٍ : طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ
مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَالدَّجَّالُ
وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَالدُّخَانُ وَثَلَاثَةُ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ
وَخَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ تَخْرُجُ
نَارٌ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ ) .
فهذا يدل على أن ( عدن ) من اليمن .
والله أعلم .
تعليق