الحمد لله.
أولا :
روى الترمذي (3805) عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ ) ، وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " (3805).
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم وقت موته ، على وجه التحديد ، وليس في هذا الحديث ـ كذلك ـ إشارة إلى ذلك ، أو بناء عليه ، إنما هذا كحال كل من يوصي من الناس بوصية ، فليس فيها أنه يعلم وقت موته ، وإن كان قد يعلم بعض أمارات ذلك ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بدنو أجله .
وقد نعيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، في سورة " النصر " ، وهي آخر سورة نزلت من القرآن ، أو من آخر ما نزل منه .
وينظر : جواب السؤال رقم : (21916).
وفي صحيح البخاري ( 4171) ، ومسلم (2444) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، قَالَتْ : " كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، قَالَتْ فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، وَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ ، يَقُولُ : ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ؛ قَالَتْ : فَظَنَنْتُهُ خُيِّرَ حِينَئِذٍ !! " .
ثانيا :
اختلف أهل السنة : هل ثبتت خلافة أبي بكر رضي الله عنه بالنص الصريح عليه ، كما ذهب
إلى ذلك بعضهم ، أو ثبتت بإيمائه لذلك ، وتوارد الإشارات البينة والقريبة من
التصريح منه صلى الله عليه وسلم في غير مناسبة ، دلت الصحابة على اختياره ، ثم
انعقدت إمامته ببيعتهم له ، وإجماعهم عليه .
وينظر : جواب السؤال رقم : (13713) .
وينظر أيضا : " الفصل " لابن حزم (4/ 87) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ بَعْدِهِ ، وَأَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا ، فَلَوْ
كَانَا ظالمَيْن أَوْ كَافِرَيْنِ فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَهُ لَمْ يَأْمُرْ
بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالظَّالِمِ ،
فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ . بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : (
لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ لَا
يُؤْتَمُّ بِهِ ، وَالِائْتِمَامُ هُوَ الِاقْتِدَاءُ ، فَلَمَّا أَمَرَ
بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ بعده ، والاقتداء هو الائتمام ، مع إخباره أَنَّهُمَا
يَكُونَانِ بَعْدَهُ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا إِمَامَانِ قَدْ أُمِرَ
بِالِائْتِمَامِ بِهِمَا بَعْدَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ " انتهى من " مختصر
منهاج السنة " (ص 509).
وقال ابن أبي العز رحمه الله :
" وَتَرْتِيبُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي
الْفَضْلِ ، كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ ، وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْمَزِيَّةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَلَمْ
يَأْمُرْنَا بالاقْتِدَاءِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَّا بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ،
فَقَالَ : ( اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ) ،
وَفَرْقٌ بَيْنَ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِمُ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، فَحَالُ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ فَوْقَ حَالِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ ...
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ ، وَلَكِنْ
ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ ، وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ
أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ
بِعُثْمَانَ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : مَنْ لَمْ يُقَدِّمْ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ
فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : " كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ : أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ
عُثْمَانُ ) " . انتهى من " شرح العقيدة الطحاوية " (ص495-496).
وإذا ثبتت خلافة أبي بكر
ثبتت خلافة عمر ، وإذا ثبتت خلافة عمر ثبتت خلافة عثمان ، وروى أحمد (21919) ،
والترمذي (2226) وحسنه عن سعيد بن جُهمان عَنْ سَفِينَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( الْخِلَافَةُ
ثَلَاثُونَ عَامًا ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ ) قَالَ سَفِينَةُ : "
أَمْسِكْ : خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ
، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ
سِنِينَ " وصححه الألباني في " تخريج كتاب السنة " (1181) .
فمثل هذا النص يعني أن خلافة الأربعة رضي الله عنهم صحيحة .
ثالثا :
روى البخاري (4416) ، ومسلم (2404) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ : "
خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ : ( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ) " .
فهذا الحديث الصحيح لا يعارض ما تقدم ، وإنما المعنى في قوله : ( أَمَا تَرْضَى
أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ ) استخلافه على المدينة
كما استخلف موسى أخاه هارون على قومه ، ولا يعني أنه سيكون الخليفة من بعده .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَإِنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ
: يَا رَسُولَ اللَّه ِ، تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ
تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ
بَعْدِي . لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ ؛ فَإِنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ
غَيْرَ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِه ِ.
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عَلِيٌّ : أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟
لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي كُلِّ غَزَاةٍ
يَتْرُكُ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَهُمْ بِالنَّفِير ،
فَلَمْ يَتَخَلَّفْ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا عَاصٍ أَوْ مَعْذُورٌ غَيْرُ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ ، وَلِهَذَا كَرِهَ عَلِيٌّ الِاسْتِخْلَافَ ، وَقَالَ :
أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ يَقُولُ تَتْرُكُنِي مُخَلَّفًا
لَا تَسْتَصْحِبُنِي مَعَكَ ؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَيْسَ نَقْصًا ، وَلَا غَضَاضَةً ؛ فَإِنَّ
مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ لِأَمَانَتِهِ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ
أَنْتَ اسْتَخْلَفْتُكَ لِأَمَانَتِكَ عِنْدِي ، لَكِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ
نَبِيًّا وَأَنَا لَا نَبِيَّ بَعْدِي . وَهَذَا تَشْبِيهٌ فِي أَصْلِ
الِاسْتِخْلَافِ فَإِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى جَمِيعِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ
عَلِيًّا عَلَى قَلِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَجُمْهُورُهُمُ اسْتَصْحَبَهُمْ فِي
الْغَزَاةِ .
وَتَشْبِيهُهُ بِهَارُونَ : لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْ تَشْبِيهِ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ : هَذَا بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى ، وَهَذَا بِنُوحٍ وَمُوسَى ؛ فَإِنَّ
هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ أَفْضَلُ مِنْ هَارُونَ ، وَكُلٌّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ شُبِّهَ بِاثْنَيْنِ لَا بِوَاحِدٍ ، فَكَانَ هَذَا التَّشْبِيهُ أَعْظَمَ
مِنْ تَشْبِيهِ عَلِيٍّ ، مَعَ أَنَّ اسْتِخْلَافَ عَلِيٍّ لَهُ فِيهِ أَشْبَاهٌ
وَأَمْثَالٌ مِنَ الصِّحَابِهِ .
وَهَذَا التَّشْبِيهُ لَيْسَ لِهَذَيْنَ فِيهِ شَبِيهٌ ، فَلَمْ يَكُنِ
الِاسْتِخْلَافُ مِنَ الْخَصَائِصِ ، وَلَا التَّشْبِيهُ بِنَبِيٍّ فِي بَعْضِ
أَحْوَالِهِ مِنَ الْخَصَائِصِ " .
انتهى من "منهاج السنة النبوية" (5/43) ، وينظر أيضا : "مجموع الفتاوى" (4/ 416) ،
" الفتاوى الكبرى " (4/ 434) ، وانظر أيضا : "الشرح الممتع" (15/ 251-254).
وقد روى ابن أبي عاصم في "
السنة " (1219) عن عَلِيّ رضي الله عنه قال : " لَا أَجِدُ أَحَدًا يُفَضِّلُنِي
عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، إِلَّا وَجَلَدْتُهُ جَلْدَ حَدِّ الْمُفْتَرِي " .
وهو خبر صحيح له طرق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَمَنْ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثَمَانِينَ سَوْطًا ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُولُ : مَنْ
فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْر فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ ؛ وَمَا
أَرَى أَنَّهُ يَصْعَدُ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ - وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى ذَلِكَ ".
انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 422).
والله تعالى أعلم .
تعليق