السبت 18 شوّال 1445 - 27 ابريل 2024
العربية

ما هو الكتاب الذي قصده الله تعالى في أول سورة البقرة

269054

تاريخ النشر : 28-05-2017

المشاهدات : 17177

السؤال

يقول الله تعالى : ( ذلك الكتاب لاريب فيه ). عن أي كتاب تكلم الله عز وجل هنا ؟ أولم ينزل القرآن ليحفظ في صدور المؤمنين ؟ لم ينزل القرآن في شكل كتاب ، وحتى الله تعالى لم يأمر نبيه بحفظ القرآن في كتاب ؟!

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

الكتاب في قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) [البقرة: 2] = هو القرآن بإجماع العلماء، كما نقله غير واحد من العلماء .

قال الرازي : " واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن" انتهى ، من "التفسير الكبير" للرازي: (2/ 260) .

وقال ابن جزي : "والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2] ، يعني : القرآن ، باتفاق" ،انتهى، من التسهيل: (1/ 68).

وإذا كان القرآن محفوظا في صدور المؤمنين ، وصدور الذين أوتوا العلم ، فإن ذلك لا ينافي بوجه من الوجوه : أن يكون محفوظا في كتاب مسطور ، أيضا ، وهو المصحف ، وهذا بإجماع الأمة قاطبة ، لا يشك في ذلك أحد ، ولا يرتاب .

وقد وردت الإشارة إلى حفظ القرآن في الصدور وفي السطور في عدد من الآيات، ومن أقربها الآيات التي وصفت هذا الكلام من الله تعالى بأنه (قرآن)، وبأنه (كتاب).

فالتعبير عنه بأنه (قرآن) فيه إشارة إلى قراءته سواء أكان في الصدور أم في السطور.

والتعبير عنه بأنه (كتاب) إشارة إلى كتابته، وأنه سيكون محفوظا في كتب يقرؤها المسلمون، انظر: المحرر في علوم القرآن: (147).

ثانيًا:

وأما الإشكال في الآية الكريمة، وحاصله: كيف يسمى القرآن "كتابا" ، ولم يكن قد كتب في ذلك الوقت ، ولم يكن قد جمع في المصاحف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أصلا ؟

فيجاب عنه بوجوه :

الأول : أن مادة ( ك ت ب ) : تدل على "الجمع" و"الضم" .

قال ابن فارس رحمه الله : " (كَتَبَ) الْكَافُ وَالتَّاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ صَحِيحٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى جَمْعِ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ. مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالْكِتَابَةُ. يُقَالُ: كَتَبْتُ الْكِتَابَ أَكْتُبُهُ كَتْبًا." انتهى، من "مقاييس اللغة" (5/158) .

وحينئذ ، فضم الحرف إلى الحرف ، هو "كَتْب" له ، وكذلك : ضم الكلام بعضه إلى بعض ، وإن كان أصله في "الخط" في الصحف ، فإنه يطلق على "اللفظ" ، والنطق به، على جهة التوسع أيضا.

قال الراغب الأصفهاني رحمه الله : " الْكَتْبُ: ضمّ أديم إلى أديم بالخياطة، يقال: كَتَبْتُ السّقاء، وكَتَبْتُ البغلة: جمعت بين شفريها بحلقة .

وفي التّعارف : ضمّ الحروف بعضها إلى بعض بالخطّ . وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللّفظ .

فالأصل في الْكِتَابَةِ: النّظم بالخطّ ؛ لكن يستعار كلّ واحد للآخر، ولهذا سمّي كلام الله- وإن لم يُكْتَبْ- كِتَاباً كقوله: ( الم ذلِكَ الْكِتابُ ) " . انتهى ، من "المفردات" (699) .

الثاني : أن الضم والجمع ، الذي هو مرادف " الكتْب" هنا : ليس المراد به الخط واللفظ ، بل المراد به : ما ضمه القرآن ، وجمعه من المعاني ، والأحكام ، والعبر ، والآيات .

قال الفيروزآبادي رحمه الله : " قوله تعالى: (الم ذَلِكَ الكتاب) يعنى القرآن سمّى كتاباً لما جُمع فيه من القصص والأَمر والنَّهى والأَمثال والشرائع والمواعظ، أَو لأَنه جُمع فيه مقاصد الكتب المنزلة على سائر الأَنبياء. وكلُّ شىء جمعت بعضه إِلى بعض فقد كتبته." انتهى، من "بصائر ذوي التمييز" (4/329) .

وقال العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله : " وأما (الكتاب) : فأصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا . قال تعالى: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [البقرة: 2] ، وقال: ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [الكهف: 1] .

وإنما سمي (كتابا) : لأن الله جعله جامعا للشريعة ، فأشبه التوراة ؛ لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يُكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ، ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، وأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم.

وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف . قال تعالى: ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها ) [الأنعام: 92] . وقال:     ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ) [الأنبياء: 50] وغير ذلك .

ولذلك اتخذ النبيء صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه ، ومن أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان.

وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم ، على قدر ما وجدوه مكتوبا ، يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف." انتهى، من "التحرير والتنوير" (1/73) .

الثالث :

أن تسمية القرآن "كتابا" : إنما ينظر فيها إلى ما قد كتب منه "بالفعل" ، والقرآن متى كتب منه "لوح"، فهو "كتاب" ، وقد كان الرسائل التي ترسل إلى الملوك ونحوهم ، تسمى "كُتُبا"، مع أنها ليست "كتبا" بالمعنى الذي نعرفه ، ولا هي مجلدات ، ولا صحف عديدة ، بل هي عادة : صحيفة واحدة .

والقرآن كان يكتب ما ينزل منه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ "كتابا" للوحي ، كما سبق نقله .

قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله : " وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا كُلُّهُ وَقْتَ نُزُولِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْإِشَارَةِ، فَقَدْ يَكْفِي فِي صِحَّتِهَا وُجُودُ الْبَعْضِ . وَقَدْ كَانَ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ عَظِيمَةٌ قَبْلَ نُزُولِ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِتَابَتِهَا ، فَكُتِبَتْ ، وَحُفِظَتْ ؛ فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا : إِشَارَةٌ إِلَيْهِ .

بَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِشَارَةِ : أَنْ يُشَارَ إِلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ فِيهَا وَصْفُ: (هُدًى لِلْمَتَّقِينَ) . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .

وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْكِتَابِ كُلِّهِ ، عِنْدَ نُزُولِ بَعْضِهِ : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِكْمَالِ الْكِتَابِ كُلِّهِ.

وَمِنْ حِكْمَةِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِهَذَا الْكِتَابِ (أَيِ الْمَكْتُوبِ الْمَرْقُومِ) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَهُوَ الْكِتَابُ وَحْدَهُ .

وَلَا يَضُرُّ أَنَّهُ عِنْدَ النُّزُولِ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا بِالْفِعْلِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: أَنَا أُمْلِي كِتَابًا، أَوْ هَلُمَّ أُمْلِ عَلَيْكَ كِتَابًا". انتهى، من "تفسير المنار" (1/104) .

وينظر أيضا للفائدة : "المحرر الوجيز" لابن عطية (1/83) ، تفسير الرازي" (2/259) ، "التحرير والتنوير" (1/219) ، "تفسير سورة البقرة" ابن عثيمين (1/25) .

والله أعلم . 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب