الحمد لله.
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والعون والسداد .
واعلم ـ أخانا الكريم ـ أن طريق طلب العلم الشرعي طريق طويل ، يقتضي منك الصبر والأناة والمثابرة ، فالعلم لا يأتي جملة ، وإنما مع الأيام والليالي ، بشرط الحرص والمتابعة ، والحذر من الفتور والانقطاع .
ونبشرك بإمكان تحصيل قدر من العلم الشرعي الجيد مع التخصص الدنيوي ، لكن بشرط استمرار الهمة العالية على الدوام ، والمحافظة على قدر معتدل من المطالعة والدراسة الشرعية .
أما إذا ملك التخصص الدنيوي على الطالب وقته وعمره ، ولم يكد يجد في اليوم الساعة أو الساعتين للقراءة الشرعية ، ثم يريد أن يصبح فقيها أو محدثا أو متخصصا في العلوم الشرعية في سنوات معدودة : فذلك أمر لا يقع في سنن الله المعهودة ؛ لأن العلم الشرعي يستغرق عمر الإنسان إن سلكه فيه ، فكيف إن أعطاه الفضلة من وقته فقط .
وقد كان العلماء في القديم ينبهون الطلاب إلى ضرورة تفريغ القلب عن الشواغل والعلائق ، كي تصفو القريحة ، وتنجلي النفس لاستظهار العلوم الشرعية ، وفهمها ، والزيادة عليها ، وتحقيق الصحيح منها ، وإدراك أحكام النوازل ، إلى جانب الدعوة إليها ، والعمل بما فيها ، فالعلم الشرعي مدرسة ، بل حياة كاملة تنقضي الأعمار ، وتنطوي الأجيال، ولا تنقضي دقائقه وأسراره .
عقد الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/425) بابا جاء فيه : " باب حذف المتفقه العلائق : كان بعض الفلاسفة لا يُعَلِّمُ أحدا يتعلق بشيء من الدنيا ، ويقول : العلم أجَلُّ مِن أَن يُشتغَلَ عنه بغيره – ثم روى بسنده عن مليح بن وكيع قال - : سمعت رجلا ، يسأل أبا حنيفة : بم يستعان على الفقه حتى يحفظ ؟ قال : بجمع الهم . قال : قلت : وبم يستعان على حذف العلائق ؟ قال : بأخذ الشيء عند الحاجة ولا تزد .
كما روى بسنده في "الفقيه والمتفقه" (2/466) عن إبراهيم بن سيار النظام قال: " العلم : شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ، وأنت إذا أعطيته كلك ، من إعطائه البعض على خطر " انتهى.
ومع ذلك لا ينبغي لمن سلك سبيل التخصصات الدنيوية أن ييأس من تحصيل العلم الشرعي ، فالأيام تتقلب ، والظروف تختلف ، وإن لم يجد الوقت الكافي للطلب اليوم ، لعله يجده غدا ، أما إن كان يجد الوقت الكافي فلا ينبغي له أن يضيع على نفسه الفرصة ، وليحرص على تحصيل الفوائد وضبط المسائل ، وهو في ذلك كله يتدرج بالمسألة والمسألتين ، ولا يستعجل الضبط والتمكين ، فالأمر يحتاج إلى سنوات وسنوات .
عن حصين ، قال : جاءت امرأة إلى حلقة أبي حنيفة ، وكان يطلب الكلام ، فسألته عن مسألة له ولأصحابه ، فلم يحسنوا فيها شيئا من الجواب ، فانصرفت إلى حماد بن أبي سليمان ، فسألته فأجابها ، فرجعت إليه ، فقالت : غررتموني ، سمعت كلامكم ، فلم تحسنوا شيئا .
فقام أبو حنيفة فأتى حمادا ، فقال له : ما جاء بك ؟ قال : أطلب الفقه . قال : تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا حتى يتفق لك شيء من العلم ، ففعل ، ولزم الحلقة حتى فقه ، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع .
يقول الخطيب البغدادي بعد رواية هذه القصة :
" وينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر ، بل يأخذ قليلا قليلا ، حسب ما يحتمله حفظه ، ويقرب من فهمه ، فإن الله تعالى يقول : ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) .
وينبغي أن يراعي ما يحفظه ، ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة ، ولا يغفل ذلك ، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنسانا مسألة من العلم ، سأله عنها بعد مدة ، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم ، فأقبل عليه وزاده ، وإن لم يره قد حفظها ، وقال له المتعلم : كنت قد حفظتها فأنسيتها ، أو قال : كتبتها فأضعتها ، أعرض عنه ولم يعلمه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/462-464)
وهذا كله من باب مسايسة النفس لحملها على المواصلة والمثابرة ، ومن ذلك أيضا التنقل بين نوعين فأكثر من أنواع العلوم ، لدفع السآمة والملل ، واستجلاب القوة والنشاط ، وهو أسلوب مستعمل لدى العلماء الأولين ، لكن بشرط التأني في ضبط المسائل وحفظها ومراجعتها ، وليس تنقلا عبثيا يحمل عليه العجلة والاضطراب .
ومن حسن التعلم أيضا أخذ المسائل والعلوم على قدر الوسع والطاقة ، فلا يتكلف الطالب حفظ ما يعد غاية في الصعوبة في عرف العلماء ، كذلك الطالب الذي يكابد لحفظ آيات القرآن الكريم ، ثم تجده يشرع في حفظ أسانيد الأحاديث ، أو أبيات المنظومات المطولة ، وهو يتعثر في حفظ كلام الله عز وجل ، فذلك خطأ منهجي ظاهر .
وذلك لا يعني قعود الطالب عن الحفظ بدعوى العجز ، بل ينبغي المثابرة والمصابرة ، وخاصة إذا كان المقصود حفظ القرآن الكريم ، فحفظ أكثره واستظهار آياته ضروري لكل مسلم ، فكيف لطالب العلوم الشرعية ، أما إن عجز عن الحفظ ويئس ، فلا أقل من حفظ المفصل من القرآن ، وهو من سورة " ق" حتى ختام المصحف ، على المشهور ، يستعين به على عبادته وصلاته ، ويعمر به فؤاده ، ثم حفظ آيات الأحكام ، والإكثار من القراءة والتأمل في كلام الله عز وجل .
يقول الخطيب البغدادي رحمه الله :
" اعلم أن القلب جارحة من الجوارح ، تحتمل أشياء ، وتعجز عن أشياء ، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل ، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا ، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم ، لا يعجزه ، ومنهم من يمشي بعض ميل ، فيضر ذلك به ، ومنهم من يأكل من الطعام أرطالا ، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه .
فكذلك القلب : مِن الناس مَن يحفظ عشر ورقات في ساعة ، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام ، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبها بغيره لحقه الملل ، وأدركه الضجر ، ونسي ما حفظ ، ولم ينتفع بما سمع ، فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدارٍ يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه ، فإن ذلك أعون له على التعلم من الذهن الجيد والمعلم الحاذق .
قال بعض الحكماء : إن لهذه القلوب تنافرا كتنافر الوحش ، فألفوها بالاقتصاد في التعليم ، والتوسط في التقويم ، لتحسن طاعتها ، ويدوم نشاطها ، ولا ينبغي أن يُمْرِج نفسه [ أي : يرسلها بلا ضابط ] فيما يستفرغ مجهوده ، وليعلم أنه إن فعل ذلك فتعلم في يوم ضعف ما يحتمل أضر به في العاقبة ، لأنه إذا تعلم الكثير الذي لا طاقة له به ، وإن تهيأ له في يومه ذلك أن يضبطه ، وظن أنه يحفظه ، فإنه إذا عاد من غد وتعلم نسي ما كان تعلمه أولا ، وثقلت عليه إعادته ، وكان بمنزلة رجل حمل في يومه ما لا يطيقه ، فأثر ذلك في جسمه ، ثم عاد من غد ، فحمل ما يطيقه فأثر ذلك في جسمه ، وكذلك إذا فعل في اليوم الثالث ، ويصيبه المرض وهو لا يشعر .
ويدل على ما ذكرته : أن الرجل يأكل من الطعام ما يرى أنه يحتمله في يومه مما يزيد فيه على قدر عادته ، فيعقبه ذلك ضعفا في معدته ، فإذا أكل في اليوم الثاني قدر ما كان يأكله أعقبه لباقي الطعام المتقدم في معدته تخمة .
فينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها ، ويقتصر من التعليم على ما يبقي عليه حفظه ، ويثبت في قلبه .
وينبغي أن يجعل لنفسه مقدارا ، كلما بلغه وقف وقفة أياما لا يزيد تعلما ، فإن ذلك بمنزلة البنيان : ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء ، بناه أذرعا يسيرة ، ثم تركه حتى يستقر ، ثم يبني فوقه ، ولو بنى البناء كله في يوم واحد لم يكن بالذي يستجاد ، وربما انهدم بسرعة ، وإن بقي كان غير محكم ، فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدا ، كلما انتهى إليه وقف عنده ، حتى يستقر ما في قلبه ، ويريح بتلك الوقفة نفسه ، فإذا اشتهى التعلم بنشاط عاد إليه ، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرض له " انتهى باختصار.
"الفقيه والمتفقه" (2/481-483) .
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
" الناس طبقات في العلم ، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم فيه ، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه ، والصبر على كل عارض دون طلبه ، وإخلاص النية لله في إدراك علمه ، نصا واستنباطا ، والرغبة إلى الله في العون عليه ، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه " انتهى.
"الفقيه والمتفقه" (2/465) .
أما الأشرطة العلمية التي ننصحك بها فهي أشرطة العلماء المعاصرين المشهورين ، كأشرطة الشيخ ابن عثيمين ، احرص عليها كلها ، وغيره من العلماء والمتخصصين الذين تجد شروحاتهم العلمية في موقع طريق الإسلام ومكتبة المشكاة ، فتجد فيها أيضا إن شاء الله شروحا مهمة لعمدة الفقه وعمدة الأحكام وغيرها من الكتب الفقهية .
وفي أبواب سير العلماء يمكنك قراءة كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ، فهو من أوسع وأشمل ما كتب في هذا الموضوع ، فإن وجدته طويلا فقد اختصره بعض المعاصرين في أربعة مجلدات ، يمكن لمن لا يجد الوقت الكافي القراءة منه ، ولكنا ننصح بقراءة الكتاب نفسه على ما فيه من طول ، ففيه فوائد تربوية وفقهية وحديثية وتاريخية كثيرة .
واستعن بالله تعالى ربك أن يعينك على هذه العبادة – طلب العلم – ، وداوم على دعائه بأن ييسر لك الصعب ويسهله ، ولا تنس الإخلاص في الطلب فهو سر النجاح والتوفيق في الدارين .
وأما شروح عمدة الأحكام المعاصرة فمن أيسرها وأقربها : تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ، للشيخ عبد الله البسام ، رحمه الله ، وهناك شروح صوتية مسجلة لعدد من أهل العلم عليه ، ومن أوسعها شرح الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي حفظه الله .
وللشيخ البسام رحمه الله أيضا تعليقات مختصرة على عمدة الفقه ، مع أهمية الاستعانة بالشروح المسموعة لها ، مثل شرح الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله ، وغيره من أهل العلم الذين شرحوها ، وهي كثيرة جدا .
والله أعلم .
تعليق