الحمد لله.
أولا :
هذه الأحاديث تتعلق بموضوع واحد ، وهو باب اقتران الإجابة بالدعاء ، وهي – وإن كانت ضعيفة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم – إلا أن القرآن الكريم جاء بمقتضى ما فيها ، ويشهد لمعانيها ، حيث يقول الله عز وجل : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة/186 .
غير أن الإجابة التي وعد الله بها يجب أن تسبقها بعض الشروط التي تحقق القبول عند الله عز وجل .
قال الطبراني في "المعجم الصغير" (2/198) :
" وقد افتتن جماعة ممن لا علم لهم ، بأن يقولوا ندعوا ولا يستجاب لنا ، وهذا رد على الله عز وجل ؛ لأن الله يقول وقوله الحق : ( ادعوني استجب لكم ) وقال : ( إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) ، ولهذا معنى لا يعرفه إلا أهل العلم والمعرفة ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم : روى أبو سعيد الخدري وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يدعو الله بدعوة إلا استجاب له ، فهو من دعوته على إحدى ثلاث : أما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن تدخر في الآخرة ، وإما أن يدفع عنه من البلاء مثلها )" انتهى .
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/392) :
" لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة ، مع استكمال شرائطه ، وانتفاء موانعه ، وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه ، أو وجود بعض موانعه " انتهى .
ثانيا :
أما أحكام الأحاديث الواردة في هذا السؤال ، فهي على الوجه الآتي :
1- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من أَعطَى أربعًا أُعطِيَ أربعًا ، وتفسير ذلك في كتاب الله :
من أعطى الذكر ذكره الله ؛ لأن الله يقول : ( اذكروني أذكركم ) .
ومن أعطى الدعاء أعطي الإجابة ؛ لأن الله يقول : ( ادعوني استجب لكم ) .
ومن أعطى الشكر أعطي الزيادة ؛ لأن الله يقول : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) .
ومن أعطى الاستغفار أعطي المغفرة ؛ لأن الله يقول : ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا ) .
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7/117-118) وفي "المعجم الصغير" (2/198) ، ومن طريقه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (1/247) ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/839) ، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (4/126) ، وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك" (رقم/532) ، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/360) لابن مردويه . وذكره الواقدي في "فتوح الشام" (266) .
كلهم مِن طريق :
محمد بن إسحاق بن موسى المروزي قال حدثنا محمود بن العباس صاحب بن المبارك قال حدثنا هشيم ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه به .
قال الطبراني : لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا هشيم تفرد به محمود بن العباس .
ومحمود بن العباس هذا قد اتهمه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/77) بوضع الحديث ، وقال : "له خبر منكر . ثم ذكر هذا الحديث " انتهى.
وقال في "تلخيص العلل المتناهية" (ص/307) : باطل .
وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/152) : " فيه محمود بن العباس وهو ضعيف "انتهى.
وقال ابن الجوزي : " هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تفرد به محمود بن العباس وهو مجهول " انتهى .
فهذا حديث ضعيف جدا ، لا يصح بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2- وأما حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( ما كان الله ليفتح لعبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة ، الله أكرم من ذلك )
فقد جاء من طريقين عن أنس رضي الله عنه :
الأولى : عن جعفر بن محمد بن بريق قال حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي قال حدثنا الحسن بن محمد البلخي عن حميد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه به .
رواه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/242) ، وقال : لا أصل له . وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/171)
وهذا إسناد ضعيف جدا بسبب الحسن بن محمد البلخي ، قال فيه العقيلي : منكر الحديث ولا يتابع عليه وليس له أصل .
الثانية : عن عبد الرحمن بن خالد بن نجيح قال : حدثنا حبيب قال : حدثنا محمد بن عمران ، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن ، عن أنس مرفوعاً لكن بلفظ : ( ما أذن الله لعبد في الدعاء حتى أذن له بالإجابة ) .
رواه أبو نعيم في "الحلية" (3/263) وقال : "حديث غريب من حديث ربيعة ، تفرد به حبيب كاتب مالك عن محمد عنه" انتهى.
وهذا إسناد ضعيف جدا أيضا ، بسبب حبيب بن أبي حبيب ، فهو متروك ، وكذبه بعض أهل العلم ، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (2/182) ، وعبد الرحمن بن خالد بن نجيح قال فيه الدارقطني : متروك الحديث . انظر "لسان الميزان" (3/413).
ولذلك حكم الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم/4416) على هذا الحديث بقوله : موضوع .
3. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا فتح على العبد الدعاء فليدع ربه فإن الله يستجيب له ) .
فلم نجده بهذا اللفظ عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقد عزاه السيوطي في الجامع الكبير إلى الترمذي ، والظاهر أنه يقصد الحكيم الترمذي صاحب "نوادر الأصول" ، وليس الإمام أبا عيسى صاحب السنن ، وكتب الحكيم الترمذي تتفرد بالموضوعات والمناكير كثيرا ، فلا يعول عليها إن لم تذكر فيها الأسانيد الصحيحة .
أما صاحب السنن أبو عيسى الترمذي ، فقد روى نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما (3548) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ ) .
وهذا أيضا حديث ضعيف ، قال فيه الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ القُرَشِيِّ ، وَهُوَ الْمَكِّيُّ الْمُلَيْكِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي الحَدِيثِ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ .
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/145) : إسناده لين .
وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".
4. وأما حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : ( أَرْبَعُ خِصَالٍ : وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لِي ، وَوَاحِدَةٌ لَكَ ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي :
فَأَمَّا الَّتِي لِي : فَتَعْبُدُنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا .
وَأَمَّا الَّتِي لَكَ عَلَيَّ : فَمَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ جَزَيْتُكَ بِهِ .
وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ : فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الإِجَابَةُ .
وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي : فَارْضَ لَهُمْ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ )
رواه أبو يعلى في "المسند" (5/143) ، والبزار في مسنده برقم (19) "كشف الأستار" ، وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال" (رقم/151، 533) :
كلهم من طريق صالح المري قال : سمعت الحسن ، يحدث عن أنس بن مالك به .
وصالح المري وهو ابن بشير بن وداع ، جاء في "تهذيب التهذيب" (4/383) تضعيف عامة المحدثين له ، قال فيه ابن معين : ليس بشيء . وقال ابن المديني : ضعيف ضعيف . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال النسائي : متروك الحديث .
قال الهيثمي في "المجمع" (1/51) : " في إسناده صالح المري وهو ضعيف ، وتدليس الحسن أيضا ، والمحمل هنا على صالح بن بشير المري ، فهو ضعيف جدا ، وقد تفرد به " انتهى.
وقال ابن عدي في "الكامل" (5/96) : منكر .
فالحاصل أن هذه الأحاديث المسؤول عنها كله ضعيفة لا تصح ، ويغني عن هذه الأحاديث الآيات التي ذكرناها ، والتي فيها وعد الله تعالى من دعاه بالإجابة .
والله أعلم .
تعليق