الحمد لله.
أولاً:
ليس القرآن شعراً ، ولم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شاعراً ، بل وما ينبغي له ، قال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ . وَمَا لا تُبْصِرُونَ . إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ . وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ . تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الحاقة/38-43 ، وقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) يـس/69 .
ثانياً:
كلام العرب لا يخرج عن كونه شعراً ونثراً ، ولا يعرف العرب غيرهما ، وما يذكره بعض العلماء من وجود قسم ثالث وهو " السجع " : فهو داخل في النثر ، وليس قسماً مستقلاًّ ، حتى جاء الله تعالى بالقرآن ، وأنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فبهرت كلماته عقول العرب ، وأخذ أسلوبه بألبابهم ، فتركهم في حيرة ، فلا هو بالشعر الذي ينظمونه ، ولا هو بالنثر الذي يقولونه ، ومن قال منهم إنه " شعر " : فهو مكابر ، كاذب ، يعرف نفسه أنه غير صادق ، أو أنه لا يعرف الشعر ، ولو كان شعراً فما الذي منعهم من النظم على منواله ؟! .
ولذلك رأينا اعتراف الصادقين منهم أن القرآن ليس بشعر ، ومن هؤلاء المعترفين بذلك :
1. أبو الوليد عتبة بن ربيعة :
روى ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال : حُدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيِّداً - ، قال يوماً - وهو في نادي قريش ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده - : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه ، وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنَّا ؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي اللَّه عنه ، ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثرون ، ويزيدون ، فقالوا : بلى ، يا أبا الوليد قم إليه ، فكلمه ، فقام إليه عتبة ، حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السطة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها ، قال : فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد أسمع ، قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً : جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً : سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً : ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك : طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني ، قال : أفعل ، فقال : بسم اللَّه الرحمن الرحيم ( حم . تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ . كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ . وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) فصلت/ 1 – 5 ، ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك ، فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قط ، واللَّه ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فو اللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب : فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب : فمُلكه ملككم ، وعزُّه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه ، قال: هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .
رواه البيهقي في " دلائل النبوة " ( 2 / 205 ) ، وأبو نعيم في " الدلائل " ( 1 / 304 ) وحسَّنه الألباني في التعليق على " فقه السيرة " للغزالي ( ص 113 ) .
2. الشاعر أنيس الغفاري :
قد روى مسلم ( 2473 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه : قصة إسلامه وإسلام أنيس أخيه ، وفيها قال : ( فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة فاكفني - أي : ابق مع أمي - فانطلق أنيس ، حتى أتى مكة ، فراث علىَّ ، ثم جاء ، فقلت ما صنعت ؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك ، يزعم أن الله أرسله ، قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر وكان أنيس أحد الشعراء .
قال أنيس لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر - (أي على أنواع الشعر وطرقه وأوزانه ، واحدها : قَرْء ) - فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر - أي : إنه ليس بشعر - والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ... ) .
قال أبو العباس القرطبي – رحمه الله - :
ومعنى الكلام : أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر : تبيَّن له أنه ليس من أنواعه ، ثم قطع : بأنه لا يصح لأحد أن يقول : إنه شِعر .
" المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " ( 6 / 394 ) .
ثالثاً :
إذا كان القرآن ليس شعراً ، كما نفاه الله تعالى عنه ، ونفاه عنه الشعراء الصادقون ، فهل هو من النثر ؟ والجواب : لا ، ولا هو من النثر ، ومن تأمل في كتاب الله تعالى حق التأمل ، وكان له ذوق لغوي وبلاغي : علم أنه ليس من النثر ، بل هو قسم ثالث من أقسام الكلام في لغة العرب ، وقد اعترف بهذا كبار الأدباء قديماً وحديثاً ، ونذكر هنا شهادة رجل من الأدباء ، وله موقف معروف من الشرع ، وهو " طه حسين " وشهادته هنا مهمة ؛ لأنه من أهل الاختصاص من جهة ، ومن جهة أخرى فهو لن يجامل أحداً !
ومما قاله طه حسين :
ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثراً ، كما أنه ليس شعراً ، إنما هو قرآن ، ولا يمكن أن يسمَّى بغير هذا الاسم ، ليس شعراً ، وهذا وضع ، فهو لم يتقيد بقيود الشعر ، وليس نثراً ؛ لأنه مقيّد بقيود خاصة به ، لا توجد في غيره ، فهو ليس شعراً ، ولا نثراً ، ولكنه : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ، فلسنا نستطيع أن نقول : إنه نثر ، كما نص على أنه ليس شعراً .
كان وحيدا في بابه ، لم يكن قبله ، ولم يكن بعده مثله ، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله ، وتحدى الناس أن يحاكوه ، وأنذرهم أن لن يجدوا إلى ذلك سبيلاً ... .
" من حديث الشعر والنثر " - الأعمال الكاملة – ( 5 / 577 ) بواسطة مقال " حول إعجاز القرآن الكريم ، الابتداء بالأسلوب " ( من ص 75 - 84 ) للدكتور علي حسن العماري ، نشر في مجلة " الجامعة الإسلامية " العدد 24 ، ، ربيع الثاني 1394هـ .
وهذا المقال نفيس ، وفيه بيان المسألة بوضوح وجلاء ، ومما قاله الدكتور الفاضل فيه :
فمشركو العرب ادَّعوا أن القرآن شعر ، وادعوا أنه كهانة ، ومعنى هذا : أن شبه القرآن عندهم بالشعر ، وبكلام الكهان هو الذي يمكن أن يذيعوه ، وهم حريصون على أن يقولوا ما يمكن أن يُصدّقوا فيه ، فهم - بذلك - يقرون أنه ليس كسائر الكلام ، وإنما هو نوع خاص منه ، وقد نفى بعض فصحائهم أن يكون القرآن شعراً ، أو أن يكون قول كاهن ، كما نفى القرآن الكريم ذلك ، فثبت أن القرآن في أسلوبه وطريقة أدائه ومبناه الكلي : مخالف لكلام العرب ، ومتميز عنه ، وإن كانت ألفاظه ألفاظهم ، وتراكيبه تراكيبهم .
وقال :
ذكر " عيسى بن علي الرماني " ( متوفى 386 هـ ) في رسالته " النكت في إعجاز القرآن " أن القرآن جاء بأسلوب جديد حيث قال : " وأما نقض العادة : فإن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة : منها الشعر ، ومنها السجع ، ومنها الخطب ، ومنها الرسائل ، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث ، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن ، تفوق كل طريقة " انتهى .
وقال الدكتور الفاضل :
وسار على هذا المنهج أبو بكر الباقلاني ، فأطال القول في هذا المعنى ، ومن ذلك قوله : " إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم ، ومباين لأساليب خطابهم ، ومن ادعى ذلك : لم يكن له بدٌّ من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر ، ولا من قبيل السجع ، ولا الكلام الموزون غير المقفى ؛ لأن قوماً من كفار قريش ادعوا أنه شعر ، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعراً ، ومن أهل الملة من يقول : إنه كلام مسجع ، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم ، ومنهم من يدعي أنه كلام موزون ، فلا يخرج بذلك عما يتعارفونه من الخطاب " انتهى .
فتبين مما سبق أن القرآن كلام الله تعالى ، أحكم آياته ، وفصَّلها ، وبيَّنها ، بكلام عربي مبين ، وليس هو على طريقة ما عرفه العرب من الشعر ، والنثر ، بل هو قرآن ، قسم خاص ، لا يشبه الشعر والنثر ، ولا يشبهانه .
والله أعلم
تعليق