الحمد لله.
لما كانت الفتوى بيانا لحكم الله عز وجل في الوقائع والأحداث ، وهناك من الناس من سيتبع هذا المفتي فيما قاله من أحكام، كان المفتي بغير علم واقعاً في كبيرتين عظيمتين:
الكبيرة الأولى :
الجرأة على الكذب والافتراء على الله .
قال الله عز وجل : (قُُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33.
والمفتي بغير علم يقول على الله ما لا يعلم ، وقد قرن الله تعالى تحريم ذلك بتحريم الإشراك به ، مما يدل على عظم ذنب من قال على الله ما لا يعلم .
قال ابن القيم رحمه الله :
" وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : ( قُُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33.
فرتب المحرمات أربع مراتب :
وبدأ بأسهلها وهو الفواحش .
ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم .
ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه .
ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه .
ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل/116-117.
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه " انتهى.
" إعلام الموقعين " (1/38) .
الكبيرة الثانية :
إغواء الناس وإضلالهم .
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) رواه البخاري (100) ومسلم (2673) .
فالمفتي بغير علم ضلَّ عن الحق ، وأضل غيره ممن اتبعه في فتواه .
جاء في " الموسوعة الفقهية " (32/24) :
" الإفتاء بغير علم حرام , لأنه يتضمن الكذب على الله تعالى ورسوله , ويتضمن إضلال الناس , وهو من الكبائر , لقوله تعالى : (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) , فقرنه بالفواحش والبغي والشرك , ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا , فسئلوا , فأفتوا بغير علم , فضلوا وأضلوا) . من أجل ذلك كثر النقل عن السلف إذا سئل أحدهم عما لا يعلم أن يقول للسائل : لا أدري . نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما والقاسم بن محمد والشعبي ومالك وغيرهم , وينبغي للمفتي أن يستعمل ذلك في موضعه ويعود نفسه عليه , ثم إن فَعَل المستفتي بناءً على الفتوى أمراً محرماً أو أَدَّى العبادة المفروضة على وجه فاسد , حمل المفتي بغير علم إثمَه , إن لم يكن المستفتي قَصَّر في البحث عمن هو أهل للفتيا , وإلا فالإثم عليهما" انتهى.
وقال ابن مسعود : ( من كان عنده علم فليقل به ، ومن لم يكن عنده علم فليقل : الله أعلم ، فإن الله قال لنبيه : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) ص/86 .
" إعلام الموقعين " (2/185)
وانظر جواب السؤال رقم : (21018)
والله أعلم .
تعليق